عندما كنا طلابا باحثين في الدراسات العليا في جامعة السوربون نتذكر قولة أحد أساتذتنا الكبار الذي يشرح لنا خفايا الاستراتيجيات في العلاقات الدولية في زمن مختلف عن زمننا كانت فيه الحرب الباردة بين المعسكرين هي الطاغية كان يقول لنا "إذا أردتم أن تفهموا فن الصراعات بين الأمم و تديروا المفاوضات الدبلوماسية بين الدول عليكم بتعلم لعبة الشطرنج وهي من ابتكار الفرس منذ الاف السنين و هي تلخص عبقرية الأمة الفارسية في اختصار حرب كاملة في رقعة شطرنج صغيرة يتقابل حولها لاعبان (يرمزان الى دولتين أو جيشين) و يمارسان فنون الدفاع و مهارات الهجوم في نفس الوقت و يضحي اللاعب منهما بالبيدق في سبيل الإيقاع بالقطعة الأهم و حماية الشاه و تحصينه الى أن تنتهي المباراة حتما بانتصار لأحدهما و انهزام الثاني" و تذكرت هذه الحكمة و أنا أعيش أزمة كبيرة و معقدة اندلعت بين ايران و الرئيس ترامب (لا أقول الولاياتالمتحدة بسبب تركيبة السلطات في واشنطن و توزيع القرارات بين الإدارة في البيت الأبيض و السلطة التشريعية في الكنغرسهناك حول أخذ القرارات السياسية الخطيرة وهو ما تضمنه الدستور الأمريكي الفيدرالي منذ قرنين و نصف) اليوم تتسارع الأحداث بشكل يومي و تتعقد العلاقات و تشتبك المصالح و لكن رقعة الشطرنج الدولية تظل هي التي ترمز للصراعات و كسب المواقع على الصعيد النفسي أولا وعلى الصعيد الدبلوماسي ثم لا قدر الله على الصعيد العسكري إذا اقتضى الأمر. نسجل أولا أن الشرعية الدولية المؤسسة على معاهدة متعددة الأطراف (معاهدة الملف النووي الإيراني الموقعة في 14 يوليو 2015 في مدينة فيانا بين ايران و مجموعة ما يسمى 5 زائد واحد) تم نقضها من جانب واحد كان وقع عليها هو الجانب الأمريكي فأعلن الرئيس ترامب منذ ثلاثة أشهر الانسحاب الأحادي من المعاهدة و كما توقع الجميع رفض الموقعون الأخرون الانصياع لطلبات واشنطن و اطمأنت طهران أن ظهرها مسنود الى الخمسة المتشاركين في تحديد نسب تخصيب اليورانيوم المتفق عليها بل إن الوكالة الأممية لمراقبة المفاعيل النووية بمدينة فيانا أقرت في تقريرين (22 ديسمبر 2016 و 3 مارس 2017) أن طهران ملتزمة بتطبيق بنود المعاهدة و ذلك بعد إجراء خبرائها زيارات غير معلنة للمنشأت النووية في ايران و خاصةمواقع تخصيب اليورانيوم: ومن أهمها: مركز رامانده ولشكر آباد، ومنشأة نطنز، وموقع دارخوين المشتبه في أنه معد للتخصيب، ومركز أردكان لتنقية خام اليورانيوم. ولإيران منجمان لليورانيوم هما منجم سغند ومنجم زاريغان.هذا من منظور القانون الدولي وهو كما نرى واضح لا لبس فيه إلا أن معطيات سياسية أخرى نشأت من تاريخ توقيع المعاهدة الى اليوم أهمها: وصول الرئيس ترامب الى سدة البيت الأبيض عام 2016 وهو رجل من خارج السيستم السياسي التقليدي الأمريكي لكنه من قلب السيستم الرأسمالي الغربي و منظومة بريتن وودسثم هو نفسيا و اجتماعيا رجل أعمال في طبيعته حب الكسب و الربح المالي (الكاش) وهو مزاجيا عرف عنه الاندفاع و ردود الفعل دون اعتبار اللغة الدبلوماسية معيارا للسياسة أو واجب التحفظ حين يعتقد أن ما يتخذه من قرارات هي في خدمة الأمة الأمريكية برفع شعار (أمريكا أولا) و أهم قراراته في مجال السياسة الخارجية هي تلك التي غيرت الموازين المتعارف عليها حول قضية الشرق الأوسط و قلبها الحارق القديم أي حقوق الشعب الفلسطيني لا كما يريده الفلسطينيون بل كما حددته منظمة الأممالمتحدة منذ اتفاقيات أوسلو و مدريد و كامب ديفيد أي حل الدولتين فقام ترامب بتغيير تلك الموازين بالاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لدولة إسرائيل المحتلة لأراض فلسطينية و المشيدة لجدار العار المرفوض أمميا و المستمرة في بناء المستوطنات و أخيرا خلال الأسبوع الماضي هدم البيوت و القتل خارج القضاء!المعطى الثاني الأخطر هو أن الرئيس ترامب مسنودا بصهره و مستشاره (جاريد كوشنير) و بالصقر (جون بولتون) مستشاره للأمن القومي بدأ يطبق أجندة اليمين الإسرائيلي المتعصب بما يسمى صفقة القرن التي مع الأسف إنخرطت فيها دول الحصار على قطر وهي الدولة الرافضة لبيع حقوق الشعب الفلسطيني و أصبحت أزمة الخليج هي الباب الذي يفتح لتبرير ضغوط لأسباب مختلفة و غير مقنعة على كل من ايران و قطر و تركيا وهذه الضغوط تتدرج من التهديد بالحرب ضد ايران الى الحصار المضروب على قطر الى العقوبات المعلنة ضد تركيا و لكل دولة برنامج محدد من التصعيد لكن إرادة الأمم أقوى و إصرار أنظمتها على سيادتها و مصالحها تنتصر دائما. نحن واثقون من عدالة قضية الحقوق المشروعة ووجاهة نصرتها بعدم الخوض مع الخائضين في أسواق النخاسة السياسية لبيع الذمم وحصد الأرباح على حساب الحق و الذين ينادون باحراق المركب بمن فيه و العياذ بالله