أثارت زيارة الدولة التي أداها هذه الأيام الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون إلى واشنطن عاصفة غير مسبوقة من التعليقات تراوحت جميعها بين الإقرار بفشلها و بين التنويه بجرأة الرئيس الفرنسي الشاب الذي شبهوا ردود فعله بالسلوكيات الديغولية (نسبة للجنرال ديغول) أي المتمسك بسيادة قرار الجمهورية الفرنسية و عدم تذيلها للحليف الأمريكي الأكبر. الفشل كما لاحظنا ميز هذه الزيارة رغم ما أحاط بها من أجواء العناق و تفاقم منسوب القبل "التلقائية" أو الدبلوماسية بين الرجلين هو فشل ذريع لما أراده (ماكرون) لأن فرنسا عادت بخفي حنين من هذه الزيارة. أولا كانت باريس ترغب في أن يعدل دونالد ترامب عن قراره بالخروج من معاهدة باريس العالمية حول المناخ (والتي وقعها الرئيس أوباما مع 190 من دول العالم يوم 12 ديسمبر 2015) و كانت هذه المعاهدة محل شرف أثيل لفرنسا حيث نجحت في ضم 190 دولة الى مشروعها فالتزمت باتخاذ إجراءات قاسية لحماية طبقة الأوزون و التخفيض التدريجي في درجات تلويث الهواء بما تضخه المصانع من دخان ملوث. و كان إنضمام أمريكا لهذه المعاهدة هو المكسب الأهم لدى باريس لكن حلول الرئيس ترامب المفاجئ في البيت الأبيض عوضا عن السيدة هيلاري كلنتن المتحمسة للمناخ كان الطالع الأسود للمعاهدة لأن رجل الأعمال ترامب الذي لبس كسوة الرئيس هو الذي وعد أباطرة الصناعة الأمريكية أيام حملته الإنتخابية بالخروج مما سماه الفخ الفرنسي لأنه حسب رأيه فخ نصبته باريس لإيقاع الصناعة الأمريكية في مطبات المنافسات الصينية و الأوروبية و قص أجنحتها في مجال التصدير للصلب و الحديد والألمنيوم والسيارات و التجهيزات و السلاح ! و يعتقد ترامب أن باريس ذاتها رومنسية و مغرر بها من قبل اللوبيات الروسية و الصينية و الألمانية القوية التي أكلت الكستناء الساخن بأصابع فرنسا كما يقول المثل الفرنسي ! هذا الإخفاق الفرنسي يضاف إلى إخفاق سياسي و ستراتيجي ثان سجلته زيارة ماكرون وهو الفشل في إثناء ترامب عن تهديده بالتراجع عن معاهدة النووي الإيراني الموقعة يوم 14 يوليو 2015 بين طهران و الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن في مدينة فيانا عاصمة النمسا واعتبرتها الدول الخمسة أنتصارا باهرا لتعطيل برنامج إيران النووي ومنع الجمهورية الإسلامية من بلوغ خط امتلاك السلاح النووي ! في هذه النقطة بالذات تبين التضاد بين باريس و واشنطن لا فقط في تقييم المعاهدة مع طهران بل في كيفية مواجهة تحديات الحرب و السلم في القرن الحادي والعشرين فبينما ترى باريس أن إتفاقا مع إيران حول تحديد منسوب تخصيب اليورانيوم كاف و كفيل بقطع الطريق النووية العسكرية أمام طهران ترى واشنطن بصراحة بأن موقف إسرائيل هو الأفضل لأنه يعتمد على التهديد بالقوة العسكرية و لا يثق في التزامات إيران الراهنة.نعم هي ليست مجرد اختلافات شكلية حول الوسائل الجيوستراتيجية بل هي خلافات جوهرية حول الغايات البعيدة و الطرق الأنجع لضمان تفوق الغرب المنتصر و تسخير بقية العالم لخدمته و تزويده بالطاقة و شل حركات أعدائه الحقيقيين أو الافتراضيين.ثم إن للإتحاد الأوروبي مع إيران مصالح أقتصادية (منها مثلا شراء طهران لخطوطها الجوية 120 طائرة إيرباص على سنوات) كما أن لها مصالح استراتيجية تشكلت من أيام الشاه لأن مكانة إيران الجغرافية عززت مكانتها السياسية فهي لوقرأتم الخارطة تقع بين قارة أسيوية صاعدة و شرق أوسط متوتر و خليج ثري بالطاقة و تطل على معابر بحرية حيوية تتحكم في أنابيب نقل النفط و الغاز و تؤثر على النقل التجاري أو العسكري لمنطقة تقع في قلب العالم. ومن هنا جاء إخفاق باريس في تحويل وجهة الرئيس ترامب عن نية إلغاء المعاهدة النووية و باريس تدرك بأن ردود فعل الجمهورية الإسلامية على إلغاء المعاهدة ستكون مشروعة في منظور القانون الدولي و سوف تتيح لطهران العودة الى تخصيب اليورانيوم و تصنيع سلاحها النووي مثل جاراتها الباكستان و الهند و مثل غريمتها إسرائيل. كل هذا الفشل الفرنسي تم على خلفية قبلات حارة و عناقات حميمية أسالت نهرا من التعليقات الساخرة في وسائل الإعلام الفرنسية و الأوروبية و حتى الأمريكية التي ملأت أعمدتها و شاشاتها بالمشاهد غير المعتادة و التندر على أعمار زوجتي الرجلين و على التخلي عن نواميس البروتوكول مثل قيام ترامب بتنظيف كتف ماكرون من القشرة المتساقطة من شعره! على كل فإن وراء هذه القمة و نوادرها أبعادا جيوستراتيجية جدية و حساسة تؤكد لنا أن الإتحاد الأوروبي يطمح إلى أن يكون قوة عظمى اقتصاديا و سياسيا و عسكريا بالتالي الخروج تدريجيا عن بيت الطاعة الأمريكي فلا ننسى أن أول خطاب إنتخابي ألقاه ترامب في أكتوبر 2016 تضمن تهديدا صريحا للقارة الأوروبية العجوز داعيا إياها إلى تحمل مسؤولياتها و دفع الأموال لواشنطن من أجل تأمين سلامتها ! و لا يغيب عن أذهان القراء الكرام أنه في مقابل هذا الإخفاق نشهد نجاح قمة الكوريتين و العناق الأخر بين زعيمي الشطرين وهو ما يفتح الطريق أمام ترامب لعقد القمة الأهم مع القوة النووية الفعلية في بيونغ يانغ.