لا أدري كم يكفي من العبارات وكم يكفي من الصفحات لوصف التجربة التي عشتها في تونس الشقيقة، تجربة حافلة بالعلاقات الودية والحضور في العديد من المناسبات الرسمية وغير الرسمية والتي شرفنا بها الإخوة والأصدقاء في هذا البلد الجار، حيث لا يسعني في هذا المقام إلا أن أسرد جمال بعض المدن التي زرتها في تونس الخضراء سردا موجزا وأكتب بعض الكلمات النابعة من القلب التي لن تفي هذا البلد حقه. هي تونس التي عرفت وأحببت، تونس السلم... تونس التسامح... تونس الحياة... لا يمكن، سواء لعابر سبيل أو من أقام ردحًا، أو من قرّر البقاء، أن يستشف القيم الأصيلة لهذا الشعب دون الغوص في أعماق هذا البلد الطيّب وهذا الشعب الكريم. القادم لتونس يستشفّ منذ الدقائق الأولى أو هي لحظة اللقاء، أنّ البلد مجبول على قبول الآخر، بل جعله لا يحسّ بأيّ اختلاف أو أيّ غربة. الأمر يتجاوز وهو أعمق بكثير من زيارة يؤدّيها سائح إلى بلد ألف بل اعتاد استقبال الملايين على مدار السنين، بل عادات صبغت جينات التونسي وصارت منذ عقود وقرون جزءا من أخلاقه ومكوّنا أساسيّا من ذات منفتحة على العالم، بقدر اعتزازها بذاتها وفخرها بعمقها التاريخي. الزائر البسيط كما عالم الاجتماع يتيقّن منذ اللقاء الأوّل أنّ لا مكان للعنف في سيكولوجية الإنسان التونسي ولا حاضنة للعنف في هذا البلد الجميل، فالمؤسسة الدينية تستمد تماسكها وصلابتها من المؤسسة الزيتونية والمذهب المالكي، حيث أن كل الأئمة والعلماء والمدرسين مرجعيتهم زيتونية من أمثال (على سبيل الذكر لا الحصر لطول القائمة) العالم الدكتور منير الكمنتر، والعديد من المشايخ والعلماء على غرار محمد صلاح الدين المستاوي نجل العالم الحبيب المستاوي، وغيرهم من الأئمة والعلماء الذين يجعلون من وحدة الأمة وتماسكها هدفهم الأسمى. الأمر الذي أعطى لقيم التسامح وحب الحياة هذا البعد الذي نراه لدى المواطن التونسي، القائم على نبذ كل أشكال العنف. رصيد إيماني وعمق حضاري مكّن أهلنا في تونس من الانتصار على ظاهرة الإرهاب المقيتة وفي ظرف وجيز. من المطارات والموانئ ونقط العبور البريّة، إلى أعماق البلد من ريف مشرق إلى مدن عتيقة لا تزال تعبق بسحر التاريخ، ذات الإحساس والروح ذاتها: تأكيد على حقّ الاختلاف وتثمين للإضافات. تنوّع تغار منه ألوان قوس قزح وتستحي في حضرته: في تستور يعانق الجمال بعضه بعضا، مدينة صغيرة تنام في أحضان هضبة مَجردة، تستمد شهرتها من خصائص تنفرد بها. تاريخها الأندلسي وحاضرها القائم على العمل والفلاحة المزدهرة على مدار السنة. عاصمة هي لفاكهة الرمّان، ولها في ذلك احتفالات، يتوجها مهرجان يوفي التاريخ حقّه ويجعل المستقبل أشبه بزهر هذه النبتة، مشبع بالأمل ويقين أنّ الغد أفضل. مدينة تحمل عبق الأندلس الجميل وتجعل الزائر يركب بساط التاريخ، إلى غرناطة واشبيلية وطليطلة. مدن أرسلت أقوامًا لكنّها قدمت تراثا لا يزال شاهدا من خلال قرميد المباني وخاصّة الساعة الفريدة التي تدور عكس ساعات العالم، أنّ المدينة أروع خلف لخير سلف. مدينة تيبار القائمة على أعالي مدينة باجة بشلالاتها القادمة من شعاع الشمس، تجعل الزائر يغادر الزمن ويذهب في التاريخ بعيدًا، خاصّة وأنّ الكرم هناك وحسن الاستقبال يتجاوزان بكثير العلاقة التقليديّة بين سائح عابر ومواطن ماكث، إلى فتح البيوت وتناول تشكيلات «الملاوي» المتراوحة بحسب ما يشتهي الزائر وما تذهب إليه رغبته. يحتار المرء حقّا ويقف عاجزا أمام ما تزخر به تونس من جمال وما هي تحمل في داخلها من ودّ. جنوب بلاد عالم منفرد الجمال بدوره، بل متعدّد البهاء ومتجاوز لأيّ مقارنات. جرجيس بخليجها الرائع وأسماكه اللذيذة. قابس بواحاتها ورمانها وخاصّة نبتة الحنّاء التي أوردها الرحالة منذ القدم. جزيرة جربة بهوائها الطيّب ونسيمها، وخاصّة مساجدها الفريدة بقباب لا مثيل لها، دون أن ننسى كيف استطاع أهل الجنوب منذ قرون، تحويل هذه الأرض إلى واحات تقدّم أجود الثمار وألذّها طعمًا. إن كان من نبتة جامعة لتونس كلّها، لن يجد المرء أفضل من شجرة الزيتون التي أعطت من لون أغصانها وصفا للبلاد وجعلها «خضراء» على مرّ الأيّام والسنوات والقرون، مثلما هي أشجار الزياتين المعمّرة قرونًا... مدينة القيروان، قلب الجغرافيا في تونس، وقلب الإسلام النابض هناك منذ أنّ قرّر الصحابي الجليل أن يشيّد للمسلمين مدينة في إفريقيّة، وجعل فيها مسجدًا لا يزال إلى حدّ الساعة مزارًا يذكر عنده المصلون صاحبه الصحابي الجليل، عقبة بن نافع رضي الله عنه. مدن البحر جمعت هي الأخرى بين عمق الانتماء وبديهة الانفتاح، لتكون وجه تونس المتألق، وكذلك مدن الجريد المتراوحة حول هذا «الشطّ» الملحي، بواحات نخيل، جادت بأفضل أصناف التمور. إحساس الجزائري الزائر لتونس لا يمكن، بل يستحيل أن نعتبره مجرّد إحساس سائح تطأ رجله بلد جاءه للزيارة. عبق القرون الماضية حاضر بل وشديد الحضور منذ اللحظة الأولى، ودماء «ساقية سيدي يوسف» وغيرها من محطات النضال المشترك، وصولا إلى حجم الزيارات في الاتجاهين، المرتفع من عام إلى أخر. جميعها تؤكّد أن فرحة التونسيين بفوز الجزائر بكأس افريقيا، لم تكن مجاملة طيبّة بقدر ما هي تأكيد، بل هو التأصيل لشعار «تونسي جزائري : خاوه خاوه» تتأكد... تونس هي فعلا بلد الجمال بلد الحب والأخوة الدائمة كيف لا؟ وقد كانت بالأمس مركزا وقاعدة خلفية لجيش التحرير الوطني الجزائري ومقرا لحكومة الجزائر المؤقتة، فحُب وتقدير هذا البلد وشعبه الجميل من حب الوطن، لن أقول وداعا لك يا تونس بل أقول إلى لقاء أكيد بحول الله فشكرا لك يا تونس شعبا وحكومة على هذه الاستضافة الرائعة والجميلة والاستثنائية، حق المروج الخضر والبحر والصحراء حق الوفاء والصبر والود والعشرة وما فيك من وديان واد مجردة ومليان لا يوم عنا تهوني يا زينة البلدان يا ام السواعد سمر يا تونس الخضراء (*) دبلوماسي من الجزائر الشقيقة في تحية لتونس بمناسبة انتهاء مهامه بسفارة الجزائر بتونس