صَدَرَ حديثاً عن دار ديار للنشر والتوزيع في تونس رواية جديدة للروائيّ التونسيّ الكبير الدكتور مصطفى الكيلاني تحمل عنوان "لَيْلَة الأنْذَالِ قَبْل الأخيرة". وهذه روايته التّاسِعة ، وفيها تَجَلَّتْ خُلاصَةُ تجربته السّرديّة وَمهاراته في بناءٍ الشخصيّة وتحريكها في المكان والزمن ناهيكَ عن اللغة السرديّة الرشيقة الجاذِبة والحبكة والحوار والعتبات وتقنيات الأسلوب الأخرى. وهذه الرواية التي يُمكِنُ عَدّها مِن أهمّ الأعمال التي عرفَتها المدوّنة السرديّة العربيّة إلى جانب روايات أخرى للدكتور الكيلاني (مثل :مَيار.. سراب الجماجِم ثُمَّ ماء -2017، الزلزال والمرايا2018) تَتَناوَلُ بجرأة جماليّة ونقديّة ثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة غَيْر مَسبُوقَتَيْن الواقع التونسي الاجتماعي والثقافي والإعلامي والسياسي الراهِن مِن خِلاِل وقائع وشخصيّات نكاد نَتَعَرَّفُ عليها أو ما يُطابِقُها في تونس بخاصّة والعالَم العَرَبيّ بِعامّة. تَقَع روايةُ "لَيْلَة الأنذال قَبْلَ الأخيرة" في 236صفحة قياس15/21سم، بِغلافٍ للفنّان السوري "وائل شَعْبو".سعر النسخة الواحدة :25د.ت. ويُمكِنُ اقتناؤها في العاصمةِ التونسيّة مِن مكتبة "الكتاب" – شارع الحبيب بورقيبة ، مكتبة "بَهجة المعرفة" –ساحة برشلونة، ومكتبة "بوسلامة"-باب البحر، ومكتبة "العين الصافية " - خلف وزارة المرأة .وَفي أريانة مِن مكتبة "العيون الصافية"-المنزه السادس. ونقتَطِفُ مِن أجواء الرواية لأصدقائنا القرّاء: "تَوَقّفتْ السَيّارة أَمامَ "فيلا" فَخْمَة في حَيٍّ فاخرٍ سابحٍ في أضواء ذهَبِيَّة حالِمَة. لَمعَتْ في ذاكِرَته عِدَّةُ مَشاهد مِن نَهاره المُنقَضِي المُضنِي الّذِي قَضّاهُ مُتنقّلًا بَيْن الشوارع والأزقّة والمَقاهِي قبل تَوَجُّهه أخيرا إلى ذلك النَفَق القريب مِن مَحطّة القِطار. اسْتَعادَ بعضاً مِن تِلْك الوُجوه، ثُمّ استَقرّتْ ذاكِرتُه على وجهِ ذلك الطِفْل الذّي تَواعدَ معه لِصَباح يَوْم الغد. أَيْقَظَهُ صَوْتُ الشيخ جاسم الشريف: - وِين ضحكتك الجَمِيلة، حَبِيبي كَمال؟! انفَتَح الباب إلكترُونِيّاً، وعند دُخُول السَيّارة انغَلَقَ سَرِيعاً. أَبْصَرَ كمال الصلعاوي في الأثناء عَدَداً مِن سَيّارات رابضة هُناك أمامَ باب "الفِيلَّا" الخارجيّ. سارَ الشيخ جاسم الشريف إلى الأمام وَمِن خلفِه حسونة بوفلجَة وكمال الصلعاوي. استقبله عند باب الفيلَّا الداخليّ رِجال الخِدْمة بالتِرْحاب. حِينما أَطَلَّ الشيخ جاسم وَقَف عَشَرات الرِجال والنِساء مِن مُجتمع "المَدِينَة" الراقِي إجلالاً له وترحِيباً به. صافَحَ الرِجال وَقَبَّلَ جُلّ النِساء واحِدَةً بَعْد واحدة. تَفاجَأَ كمال الصلعاوي عند رُؤيَة سُنيا كرّوم مِن بَيْن الحاضِرات. أَجَالَ بَصَره في الوُجوه، وَإذَا مِن الحاضرِين قادة أحزاب وإعلامِيُّون ورِياضِيُّون وأساتذة جامعيُّون، البعضُ مِنهم لا يَزالُون يُدَرّسُون في بَلَد الشيخ جاسم، وَقِلَّةٌ مِنهم أَنْهَوْا تَعاقُدهم مُنذ أعوام، والشيخ يعرفهم واحِداً واحِداً، وقد ذَكَرهم بِالاسم واللّقب. تَعَجَّبَ مِن كثرة علاقات الشيخ وَتَنوُّعها. تَرَسّخ لَدَيْه يَقِينٌ بِأنَّ له نُفوذاً في بَلَده، وهو رَجُل أعمال كَبِير. حُضُور السَفِير وَتَوَدّده له مَع كافّة الحُضور وَجُلوسه في الصَدَارة أَكَّدت له أنّه شخصٌ غَيْر عادِيّ. رَحَبَّ الشيخ جاسم الشريف بِمدعُوّيه في بَيْته الضخم الفاخر الّذِي اعْتَاد الإقامة فيه كُلَّما زارَ "المَدِينة"، وهو في طَرِيقه إلى لندن أو باريس أو واشنطن. أومأ إلى أَحَد رِجال خدمته فَأَسْرَع إليْه، وبعد تَثَبُّته في أَنّ وَقت الوَلِيمة أَزِفَ دَعَا الحُضور إلى الطابق العُلوِيّ حَيْث مشهد آخر لِلْفَخامة: جدران مُغَطّاة بِأَفخر المَرَايا وأضخمها وأَضواء مُلَوّنة هادئة ونافُورة في الوَسَط بها ماءٌ مُنسكِب مِن فم أَسَد مَرْمَرِيّ وطاولات وَصُحون بورسلين ومَعالق وشوكات صَفْراء ذَهَبِيَّة ومَنادِيل مِن قُماش ناصِعَة البَيَاض وَكُؤوس لامعة يرصف صقيل زُجاجها في عَمِيم الضوء المُنبعث مِن كُلّ الاتِّجاهات. بَحَثَ في زحمة الحُضور عن سُنيا كَرّوم لِيَستأنسَ بها وَيُشاركها إحدى الطاوِلات. وكَأَنّها فَكّرت هِي أَيْضاً في الاستئناس به. لَمَّا اقتربَ مِنها وَهَمَّ بِدَعْوتها إلى الجُلوس مَعه سَمع حسونة بوفلجَة يَدْعُوهما مَعاً إلى طاولة الشيخ جاسم وَسَعادة السَفِير. أَعْلمهُما بِصَوْتٍ خافت بأنّه لَنْ يَكُون مَعهُما في الطاوِلة الشَرَفِيَّة وَهَنّأهُما بِمَجْدٍ قادِم. قُدِّمَتْ أفخرُ الأطعمة والخُمُور. ولمَّا دارت الكُؤوس اسْتَحال الهمس إلى ضَجِيج، والابتِسامات إلى ضَحكات.(...) شَدّ انتِباه كمال الصلعاوي جُلُوس آمال عَبْد السَتّار وَحِيدة في طاولة بِأَقصى المَكان مُنزَوِيَة، وهي تشرب وَتُدَخّن وقَلّما تَأكل، وتنظر بَيْن الحِين والآخر إلى الطاولة الشَرَفِيَّة حَيْث هُو جالس. حَيّاها مِن بَعِيد وَهَمَّ باستئذان الشيخ جاسم لِقَضاء شأن عاجل يَتَعَلّل به ثُمّ يَعُود، وَفِي نِيَته أن يُسَلّمَ عليْها وَيُخَفِّفَ بعض الشيء من ضَجَرها، إلّا أنَّ مُحمّد الفيَّاضِي الجامعيّ المعرُوف الّذي دَرَّسَ لِمُدّة أعوام في بَلَد الشيخ جاسم لاحَظَ عُزْلَتها فَدَعاها إلى طاولته الّتي بها عَدَدٌ آخر مِن جامعيّين وَكُتّاب، وهو الّذِي قدّم لِمَجْمُوعتها الشعريّة الأُولى وَكَتب إثرَ ذلك مَقالات اعتمدَ فيها أَحْدث المناهج النقديّة لِيُثبت نُبُوغها، فَعَلَا بذلك نجمُها وَسَطع لِأَعْوامٍ ثُمّ خَبَا لِيَسْتَحِيلَ في اللَّاحق إلى مُجَرّد اسم باهت في ذاكرة "المَدِينة" شبه المُعَطَّلة...(...) غادَرَ النَفَق إلى السَاحة ومِنها إلى الشارع الرَئِيسِيّ. تَوَغّلَ في شَوارعه الخَلْفِيَّة. اَحَسَّ في الأثناء بِجُوعٍ حَادّ. دَخَل إلى مَطْعم شَعْبِيّ. الْتَهمَ صَحْفة "لَبْلابِي". وَاصَلَ سَيْرهُ مِن غَيْر وُجهة، فَاعتَرَض سَبِيله مَقهى عَتِيق. دَخَلَ وَجَلس بَعْد أن اشتَرَى مِن كُشْكٍ هُناك نُسْخَةَ يَوْم الأَحَد، ذلك الأَحَد، مِن جَرِيدَة "الفَضائح المُدَوّيَة". استَوْقَفتْه افتِتاحِيَّة يَوْم الأَمْس. إصْرَارُه على وُجود "حَيّ الدرابكيّة" في مَكانٍ مَّا غَيْر بَعِيد عن "المَدِينَة" جَعَلهُ يُصَدّق، فَكَيْف لِ"ستالِين زَمان" أن يَرْتَكب خَطَأ بإقدامه على التَرْوِيج لِإشاعة كاذبة، وهو الّذِي حَقَّقَ نَجاحات باهرة طِيلَة أعوامِ تَوَلِّيه رِئَاسة تَحْرِير "الفَضائح المُدَوِّيَة" أَثارَت حَسَدَ العَشرات مِن كِبار صِحافِيّي المَرْحَلَة الجَدِيدَة؟ وهل يَسْمح لِنَفسه بارتِكاب حَمَاقة بَعْد خبرة أعوام في زَمَن القَهْر الصَرِيح ثُمّ القَهْر الناعِم؟... جَدِيدُ الافتِتاحِيَّة تَمَثَّلَ في إشارته إلى أَنّ صِحافِيًاً لامعاً سَيَتَوَلَّى مهمّة التَحْقِيق، وَسَيُقَدِّمُ لِلْقُرَّاء تَفاصِيل كثيرة عن الحَيّ الغَرِيب وَسُكَّانه. لَمْ يَذكر اسْمَه، فَتَنَفَّسَ الصُعَدَاء، إذْ لَوْ فَعَل لَحَمَّله مسؤُولِيَّة أَشدّ ثِقَلاً، وهو لم يَصِل بعد إلى أوّل الطَرِيق، وقد يُصَعّب عليْه بذلك المهمّة. "ستالِين زَمان" راغِبٌ في تحقيق سَبْقٍ صِحافيّ لا كَأَيّ سَبْق، وَالمُرَجَّحُ أنّه حَقَّقَ كَسْباً وَفِيرا مِن صَفقةِ لَيْلة البارحة، لذلك ازْدَاد حَماساً واقتِناعاً عند تَكْلِيفه بالمهمّة. ثُمّ لا وَقْتَ للتراجُع والإرْجاء أو الإبْطَال. عَلَّمَهُ أَنَّ الّذي لا يُهاجِم في المَدِينة يُهاجَم، فَإمَّا أن يَكُون المَرْء مُنتَصراً أو مُنهَزماً، سائِداً أَو مَسُوداً، كما لا مَعْنى للزَمَن، إذْ هُو مُختَصَرٌ باللَّحْظة المُنقَطِعَة عن سابقتها ولاحقتها، وإِذَا الماضِي مقبرة، ذاكِرَة بَلَد مُدَمَّرَة لَيْس لها رُمُوزٌ ولا أبطال، فَجَمِيعُ الأشخاص مُقَزّمُون وكُلّ الأفعال مُبَخَّسَة، وَالمُسْتقبل هُو حَبِيس التَلَهِّي بِمُؤتَمرات وَنَدوات تُخَصَّص لِأَشخاص فارَقُوا الحَياة لِيَظَلُّوا في الأخير رُمُوزاً باهتة ترقد في رُفُوفِ المَكْتَبات أو تُثبَّتُ أَسْماؤها على لافتات الشوارع في أشباه مُدُن."