من البلدان التي عرفتها في وقت مبكر وظللت أحلم بها وأتمنى لو «أحرق» إليها.. وأبحث عن مكان لي فوق أرضها.. هي هولندا.. أما كيف تسرّبت هولندا إلى دمي فلقد تمّ ذلك عبر إذاعة عربية كان اسمها اذاعة «هيلفرسوم».. وأنا كنت أدمن الاستماع الى الاذاعات وأعشق المذياع عشقا جنونيا ولي بينه وبيني علاقة إدمان وجنون.. وكان المذياع في الزمن القديم عبارة عن صندوق ضخم.. وكنت أتصوّر أن الذين يذيعون من خلاله يسكنون بداخله.. ولذلك كثيرا ما كنت أبحث عنهم بين «أمبوباته».. وخيوطه.. وعندما أتعب ولا أجدهم تصيبني حالة اكتئاب.. وإذاعة «هيلفرسوم».. إذاعة هولندية وهي التي جعلتني أعشق هولندا.. وكنت أظن أن هذا البلد يوجد في كوكب آخر.. فلقد كنت أظن أن العالم هو تونس وتونس هي العالم.. وعندما وجدت نفسي في باليرمو تذكرت عشقي القديم.. وقررت أن أذهب الى هولندا عن طريق القطار.. وذات صباح جميل حملت حقيبتي الصغيرة واتجهت نحو محطة القطارات بباليرمو وكانت تعجّ بخلق عظيم.. وازدحام شديد.. وقطارات لا تعدّ ولا تحصى.. وحركة لا توصف! تجوّلت في المحطة.. وتطلعت الى القطارات.. ثم جلست وأخذت أفكر.. وفجأة نزل عليّ ظلّي الذي يلازمني وهو الخوف.. فشعرت بشيء من البرد.. وانكمشت على نفسي.. وتذكرت أمي المسكينة.. وتذكرت الحومة.. وتذكرت حياتي التي هربت منها.. وحاولت أن أطرد الخوف فاتجهت بسرعة الى نافذة بيع التذاكر ووقفت أمامها ورأيت من خلالها صلعة حمراء ... وتحتها وجه وحش كاسر.. ولم أصدّق أنه بشر.. ولما رآني كشّر عن أنيابه وضحك لي ضحكة صفراء.. فانتابتني حالة من الرعب كانت من نتيجتها أن فقدت صوتي فلم أستطع أن أطلب منه تذكرة القطار المتوجه الى أمستردام.. فتجمدت.. وترددت.. ولما طال وقوفي وعطلت حركة الحصول على التذاكر تقدم مني الحريف الذي كان يقف خلفي مباشرة وحملني بين يديه ورمى بي الى صديقه.. وهذا بدوره رمى بي الى صديق ثالث.. فرابع.. فخامس.. فسادس.. كانوا ستة أصدقاء أشداء.. أقوياء من الشباب الإيطاليين الذين (لا يخافون ربي) وظلّوا يتقاذفونني وهم يتضاحكون.. ويتغامزون.. ويتصايحون.. ثم بعد أن سئموا من اللعبة حملني أحدهم وقذف بي إلى خارج المحطة ثم أخد يرفسني رفسا.. وهو يسبّ العرب.. وأصل العرب.. وأنا كنت في حالة ذهول.. غير مصدق ما أتعرض اليه.. وعندما تركني كنت قد تحولت الى كتلة من العظام المهشمة.. وكانت الدماء تغطي وجهي.. وماهي إلا لحظات حتى استولت عليّ غيبوبة قوية فقدت الوعي وانتقلت الى عالم آخر.. ووجدت نفسي في كون لا أعرفه.. وكأنني صعدت الى السماء.. وكأنني أحلق بجناحين بين السحب.. وكأنني صرت غير ما كنت عليه.. أنا أصبحت لست أنا!!! وعندما كنت أحلّق وجدت نفسي أبحث عن شيء ما.. كنت في حالة شوق.. وفي حالة عطش.. وفي حالة وجد.. ربما كنت أبحث عن الطمأنينة التي لم أعثر عليها فوق الأرض.. ربما كنت أبحث عن أجوبة لأسئلة صعبة وقاسية لطالما كانت تحرقني من الداخل.. ربما كنت أبحث عن عنوان ما.. عن معنى ما.. عن يقين ما.. عن وجه ما.. لا أدري!!! ولكن ما أعلمه أنني اقتحمت منطقة غير موجودة فوق هذه الأرض.. لا تشبه كل المناطق التي يعرفها البشر.. هذه منطقة لا شيء فيها غير النور الذي لا حدّ له.. والاتساع الذي لا تحدّه حدود.. وأنت فيها لست أنت فيغمرك نور يغنيك عن كل ما كنت لا تستطيع الاستغناء عنه وأنت في الأرض.. أنا في هذه المنطقة تحررت.. وانعتقت.. وامتلأت روحي بالنور والبهجة والارتياح والانشراح.. وتحوّلت الى كتلة من نور.. وكأنني «حرقت».. ولكن إلى السماء..