قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ ليبيا* اليوم واحدة من أكثر مناطق الصراع في العالم استقطاباً على كل المستويات،أطماع الأوروبيين،فرنسا وإيطاليا بشكل خاص، وخلافهم حول الانحياز باتجاه أحد طرفي النزاع لضمان الكعكة النفطية، والمصالح، من خلال ترقب تحول الأحداث على الأرض.. إن ما يحدث في ليبيا الآن لم يعرفه بلد عربي من قبل، ليس لحساب أعداد الضحايا، وحجم الفوضى، بل لحالة السيولة السياسية، حتى بات من الصعب التمييز من ضد من؟ حظر جوي وحالة طوارئ وميليشيات مناطقية موزعة على مدن حساسة، في مقابل محاولات انقلاب وانقلاب على الانقلاب،وأجواء من التطرف المسلح المجاني لصالح المزيد من الفوضى،التي من المرجح أن تزداد متى ما دخلت الأطراف الخارجية على الخط.. دخان الجنون: لم تمض سوى أيام قليلة على الاتفاق البحري والعسكري بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية**، حتى أعلن المشير خليفة حفتر تصعيده العسكري ضد العاصمة طرابلس، الخاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها دوليا. وقد أثار هذا التصعيد مخاوف من أن تتحول ليبيا الغنية بالنفط إلى مكان لتصفية حسابات بسبب تضارب المصالح والدعم الذي تتلقاه الأطراف المتناحرة من عدة دول. ويفرض حفتر حصارا على طرابلس منذ أفريل الماضي،متهما حكومة الوفاق التي يقودها فايز السراج بإيواء جماعات إرهابية. واستمرت المواجهات المسلحة في جنوب وجنوب غرب طرابلس، بشكل متصاعد منذ إعلان حفتر عن "ساعة الصفر" لاقتحام العاصمة الليبية أمس الخميس. والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع: هل من ارتباط بين هذا التصعيد المفاجئ، والاتفاق التركي مع حكومة السراج؟ يرى الخبير المصري في الشؤون الأمنية جمال مظلوم أن الإجابة "نعم". "حفتر متخوف من أن يمد الأتراك قوات السراج بالسلاح والرجال،لذلك تحرك لحسم المعركة". يشار إلى أن الاتفاق الموقع في 27 نوفمبر2019 بين تركيا وحكومة الوفاق، يتضمن تعيين حدود المناطق البحرية بين البلدين في البحر المتوسط. وقوّى الاتفاق حكومة السراج في مواجهة حفتر، خاصة بعد تلويح إرودغان بإرسال قوات تركية إلى ليبيا. وقد لقي الاتفاق تنديدا واسعا من مصر واليونان المنافسين التقليديين لتركيا، بل حتى من دول غربية. وقبل أيام من التصعيد العسكري للجنرال الليبي خليفة حفتر في طرابس، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن الأزمة الليبية على وشك الحل، وقد تزامنت تصريحاته مع مناورات عسكرية للقوات المصرية في المتوسط. تضارب مصالح القوى الخارجية: وضع الاتفاق البحري بين تركيا وليبيا أنقرة على مسار تصادم مع اليونان وقبرص، وزاد من التوتر بينها وبين الاتحاد الأوروبي ويُضاف إلى النزاعات الحالية المتعلقة بسياسة الهجرة وتساؤلات أوسع بشأن دور أنقرة في حلف شمال الأطلسي. كما يزيد المخاطر مع مصر التي توجد على خلاف مع أنقرة منذ أن أطاح الجيش المصري في 2013 بالرئيس محمد مرسي الذي كان ينتمي لجماعة الاخوان المسلمين. ويقيم عدد كبير من أنصار الجماعة في تركيا. وفي ليبيا، فإن مصر متحالفة بشكل أوثق مع حفتر، وهو ما يعني أن القاهرةوأنقرة على طرفي نقيض فيما يتعلق بالاتفاق البحري. أما إسرائيل فهي أكثر حذرا إزاء الخطوة التركية-الليبية. ويشير محللون إلى أن أحد أسباب ذلك هو أنه إذا أصبح خط الأنابيب بين إسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا غير قابل للتنفيذ، فإنها قد تضطر للبحث عن سبل لتصدير الغاز عبر تركيا بدلا منه. ورغم توتر العلاقات بين إسرائيل وتركيا في السنوات القلية الماضية، ما زال التبادل التجاري قويا وتعتبر كل منهما الأخرى شريكا استراتيجيا. وسترسل إسرائيل قريبا بعض الغاز إلى مصر لتحويله إلى غاز طبيعي مسال من أجل إعادة تصديره، ولذلك فإنها تعتمد بشكل أقل على اليونان وقبرص. وروسيا قطعة أخرى في الأحجية.ففي حين أنها على خلاف مع تركيا بشأن سوريا، فإن البلدين ينسقان فيما يتعلق بسياسات الطاقة وموسكو حريصة على أن تكون تركيا نقطة عبور لإمدادات الطاقة. لكن الاتفاق بين تركيا وليبيا يضعهما أيضا على طرفي نقيض في ليبيا، حيث تميل روسيا إلى جانب حفتر. وستناقش روسياوتركيا الدعم العسكري لليبيا في قمة الشهر المقبل. الموقف المتخاذل للجامعة العربية: إن موقف الجامعة العربية المتخاذل مما يجري في ليبيا،خاصة بعد طلب فايز السراج من الأتراك التدخل واحتلال ليبيا، يثير كثيرًا من علامات الاستفهام حيال هذا"الموقف" غير المبرر من هذه المنظمة الإقليمية العربية التي يفترض أن تهب لنصرة العرب الليبيين وإنقاذهم من التدخل التركي الأجنبي، الذي تموله إحدى الدول الخليجية.. وإذن؟ إن ما آلت إليه الأوضاع في ليبيا اليوم بعد مضي ثلاثة شهور من الاقتتال حول العاصمة يدفع بقوة إلى البحث عن مخرج سريع للأزمة التي تشتد كل يوم،ومساهمة في حقن دماء الإخوة الأعداء يكون ملحا المطالبة بوقف فوري للقتال الجاري،لكن السؤال الذي ينبت على حواشي الواقع دائما هو كيف يمكن تحقيق ذلك خاصة في هذه الظروف التي تعلو فيها لغة الرصاص على العقل والسلام..؟ ذلك طبعا رهين بإرادة الأطراف المتصارعة أولا وإرادة المجتمع الدولي ثانيا،ونعتقد أن عامة الليبيين يرغبون في ذلك ويتمنونه اليوم قبل الغد،بالإضافة إلى الإجماع الدولي واتفاق الدول المهتمة بالشأن الليبي حول ضرورة إيقاف القتال. أما بخصوص مجلس الأمن،فعليه-في تقديري-أن يتبني قرارا بالإجماع لوقف القتال الدائر الآن في طرابلس والإعلان عن هدنة مفتوحة وأن يتولى مجلس الأمن ذاته تنفيذ القرار وردع كل من يخالف من أي الأطراف.. *منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي في 2011، تشهد ليبيا صراعات على السلطة بين العديد من المجموعات المسلحة. **فتح إعلان حكومة الوفاق الوطني الليبية موافقتها على تفعيل مذكرة التفاهم للتعاون العسكري مع تركيا،الباب أمام فاعل خارجي جديد ليتدخل في المشهد الليبي المعقد أصلا، بهدف مواجهة المشير حفتر المدعوم من دول منافسة لأنقرة.