بعد أن عدت إلى الحياة واستيقظت من الغيبوبة وأنا في الساحة الخارجية أمام محطة قطارات باليرمو وجدت حولي من يحاول أن يواسيني.. ومن يحاول أن يساعدني على الوقوف.. ومن يحاول أن يتعاطف معي بكلمات لا أفهمها ولكنني أدركت معناها الإنساني والودّي.. ولكن ما أحزنني أن هناك غير بعيد عني مجموعة من الصعاليك العرب كانوا يتضاحكون.. ويستهزئون بي.. .ويتحرّشون بي بكلمات نابية ووسخة وساخة ملابسهم ووجوههم وسلوكهم.. وكان من بينهم ثلاثة توانسة ظلّوا يسخرون مني.. وعبّروا بمنتهى السعادة عن شماتتهم فيّ واقترب منّي واحد منهم ليقول لي: «اش مجيّبك لبلاد الطليان كيف إنت ما عندكش بونية».. ورفع يده ولوّح بها في الهواء وهو يقول: «والله تستاهل نكمّل عليك بونية نكسرلك بيها وجهك.. أعملت العار للتوانسة.. التونسي يضرب وما يتضربش.. إحنا التوانسة هنا في إيطاليا أصحاب باع وذراع و«بونية.. وما ثماش اشكون يطيّحنا.. وإلا يغلبنا.. وإنت أول تونسي يتغلب هنا في إيطاليا.. هيّا عاد برّة روّح ما دام ما عندكش بونية».. بحثت عن حقيبتي فلم أجدها.. ورحت أحاول أن أعثر عليها ولكن دون جدوى.. ولكنني لمحتها عند أحد التوانسة.. لقد استولى عليها.. ويومها عرفت «الشماتة» ومعناها وأصلها وفصلها.. قبل ذلك اليوم لم أكن أعرفها.. كنت اسمع بالكلمة ولكنني لم أكن أعرف معناها.. هؤلاء أولاد بلدي.. وقد أظهروا من «الشماتة» ما أرعبني.. وهنا تذكرت تلك العبارة التي كان يرددها دائما عمّ محمد حجّام الحومة: الله لا تقطع «الشماتة» من أمة محمد.. ولكن الأجانب لم يضحكوا عليّ.. ولم يسخروا مني.. ولم يشمتوا فيّ مثلما فعل معي أولاد بلدي.. ولولا أني ابتعدت عنهم وتحاملت على نفسي لكي أسرع في الاختفاء عنهم لربما كانوا يعيدون ما فعله معي الصعاليك الستة.. ورحت أتسكّع في طرقات باليرمو بثيابي المتسخة والممزقة ووجهي تكسوه الدماء.. وفي كل خطوة كان شعوري بالقهر.. والظلم.. والخوف كذلك يتضاعف.. وفي لحظة ما تمنيت أن أبكي.. ولكنني تذكرت أمي التي كانت لا تكف عن البكاء ولكن دموعها لم تغسل أحزانها.. ولم تستطع أن تبتعد بها عن الدائرة المأساوية التي كانت تحيط بها.. لقد غرقت المسكينة في الدموع الى حد الاختناق! وهل سينفعني البكاء؟.. تساءلت بحيرة.. ولكنني لم أستطع أن أمنع نفسي فانخرطت في نوبة بكاء مرّ.. كنت كطفل صغير!!! كنت كالفراشة!!! كنت كالريشة في مهبّ الريح!!! ولم أكن بحاجة الى أن أتأكد أنني من المستضعفين في الأرض.. فأنا أعرف نفسي وأعرف أنني أنتمي الى هذه الفئة منذ أن ولدت.. ومنذ أن جئت الى هذه الدنيا.. لقد ولدت ضمنها.. وفشلت في الخروج من فلكها.. وظللت أحمل فوق ظهري ضعفي وحزني.. إلى الآن مازلت منهم.. ومازلت أشعر بضعف رهيب حتى إنني أتوقع في كل لحظة أن أنكسر.. ومازلت الى هذه اللحظة ورغم أنفي أشعر بأنني من المستضعفين في الأرض.. آلاف المرات أقف على باب الله.. فأتوسّل إليه.. وأناجيه.. وأتقرب إليه.. وأحتمي به.. ثم أسأله: أليس الإيمان بك يا ربّ وبرسولك وبقرآنك هو قوّة ما بعدها قوّة تقوي المؤمن وتشد من إزره.. وتحصنه.. وتحميه من الضّعف.. فكيف إذن وأنا المؤمن أجد نفسي من المستضعفين.. والمعذبين.. والمقهورين.. ولا حول لي ولا قوة.. كيف.. إنني أسألك يا ربّ؟!! وتمنيت أن أقف في أكبر ساحة في باليرمو وهي قريبة من الميناء وأصرخ.. وأصرخ.. غاضبا.. وساخطا.. ومحتجّا.. ولكن الخوف القديم المتجدد ألجمني.. وقطع لساني.. وأخرس صوتي.. الخوف من الحاكم الذي يسكنني أمرني بالسكوت.. أحنيت رأسي ومضيت في طريقي.. وقلبي في يدي يرتعش كالعصفور المبلّل بالماء..