على خلفية المساءلة القضائية التي كان قد تعرض لها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أواخر العام المنصرم وما تبعها من تحقيقات كانت ترمي إلى عزله عن منصبه بعد اتهامه بسوء استخدام السلطة وعرقلة عمل الكونغرس وارتكابه الكثير من الانتهاكات أخطرها الامتناع عن تقديم مساعدات عسكرية إلى دولة أوكرانيا كوسيلة للضغط على رئيسها حتى يفتح تحقيقا يهدف إلى تشويه سمعة المرشح الديمقراطي المحتمل لانتخابات الرئاسة الامريكية المرتقب إجراؤها خلال سنة 2020 . وتزامنا مع شروع ترامب في تطبيق مشروعه الذي وعد بعد منذ أن جاء إلى الحكم لإحلال السلام في الشرق الأوسط المعروف بصفقة القرن، أجرت بعض الصحف الأمريكية استطلاعات للرأي لمعرفة مدى شعبية الرئيس الأمريكي ومدى ثقة الشعب فيه ورغبتهم تجديد عهدته لولاية ثانية وهي المحطة الانتخابية التي تنتظر الشعب الأمريكي في السنة الحالية وهي استطلاعات اعتبرت مفاجئة لأنها كشفت عن مدى شعبية دونالد ترامب رغم كل ما يقال عن تخبط سياسته وعن فوضوية قراراته وعن شعبويته المقلقة والمحرجة لصورة أمريكا في العالم. وقد كان السؤال الذي فرضته نتائج استطلاعات الرأي هذه هو : من يدعم ترامب ؟ ولماذا يساند الأمريكيون هذا الرئيس ؟ وكيف يمكن أن تقنع سياساته ومواقفه التي وصفت بالشعبوية الناخب الأمريكي ؟ لقد جاء الجواب مسرعا ودون تأخر وهو أن الذي يقف وراء الرئيس دونالد ترامب ومن وفر له سبل الفوز في الانتخابات السابقة وسوف يدعمه في الانتخابات المقبلة هم الطائفة الإنجيلية التي تمثل ربع سكان الولاياتالمتحدةالأمريكية التي باتت اليوم قوة ضاربة و بمقدورها أن تغير كل المعادلات السياسية وبإمكانها فرض أي رئيس سواء كان من الحزب الجمهوري أو من الحزب الديمقراطي فقط يكفي أن يكون متماهيا مع أفكارهم و دونالد ترامب في الوقت الحالي هو الرئيس الذي يستمع لصوت الإنجيليين وهو الرئيس الذي يطبق تعاليمهم وخاصة في مسألة تجريم الإجهاض التي تعتبر في فكر هذه الطائفة مسألة محددة في الانتخابات ولهذا السبب فقد انتخب معظم الانجيليون دونالد ترامب في انتخابات سنة 2016 بعد أن وعدهم بضمان هيمنة المذهب الإنجيلي فوق التراب الأمريكي. والإنجيليون لمن لا يعرفهم هم طائفة من المسيحيين البروتستانت يبلغ تعدادهم حوالي ربع السكان وهم منتشرون في كامل أمريكا و يؤمنون بضرورة التطبيق الصارم للإنجيل المقدس وفق قراءة حرفية لنصوصه ويعتقدون بأن تعاليم السيد المسيح الذي أفدى نفسه من أجل سعادة الإنسان يجب أن تهيمن على كامل أوجه سلوك وحياة المتدينين وأن المسيحية وتعاليمها هي منهج حياة وطريقة عيش ونظرة للعالم والإنسيان وأن الانجيل كتاب أوحاه الله للمسيح ليكون دليلا للبشر حتى يسيروا عليه وليس كتابا ترتل آياته في الكنائس فقط وفي أوقات مخصوصة وإنما هو كتاب قد مزل للمسيح ليطبق في الحياة. يعتقد الإنجيليون أنه ليس هناك فرق بين السياسية والدين كما أنهم لا يؤمنون بفصل الانجيل عن الحياة بل هم لا يطرحون أصلا هذه الأفكار التي جاءت بها العلمانية الفرنسية وتجربتها المريرة مع الكنسية الكاثوليكية كما أنهم يؤمنون بأن كل رئيس يستمع إلى صوت الإنجيل هو رئيس مبعوث من الرب لذلك فهم حينما يصوتون للرئيس الذي يعدهم بتطبيق أفكارهم فإنهم يصوتون ليسوع الملك وليس لشخص الرئيس ومن أقوالهم المأثورة إن الإنجيلي الذي ينتخب الشخص الذي يؤمن بأفكاره فإنه يكون بذلك قد اتحد مع اليسوع من أجل الرئيس وهذا ما جعلهم يعتقدون بأن انتخاب دونلد ترامب هو ضرب من ضروب الإرادة الالهية التي تسنده بعد أن اختاره الله وأرسله إليهم. إن هذا النوع من الخطاب الديني الفاقد للمنطق والبعيد عن العقلانية والقريب من الخرافة والدمغجة هو الخطاب السائد اليوم في أمريكا المؤمنة وأمريكا المتدينة وهو الخطاب الذي يلقى رواجا كبيرا في الولاياتالمتحدةالأمريكية والذي يجعل انصاره يزدادون يوما بعد يوم وهو خطاب يقوم على ركائز كثيرة أهمها عدم الاعتراف بالمدرسة الرسمية التي لا تنتج حسب آرائهم إلا أشخاصا بعيدين عن الانجيل لذلك فان التعليم بالنسبة لهذه الطائفة يقع في البيوت والمنازل ويكون حضور الكتاب المقدس في المادة التعليمية مكثفا والدولة تعلم بذلك وهي على علم بهذا النوع من التعليم الديني الموازي ومع ذلك تصمت ولا تحرك ساكنا ولا تتهم أصحابه بالتطرف أو بإنتاج مواطنين خارج الدولة والمجتمع . والركيزة الثانية المهمة هي أن الإنجيليين لا يؤمنون بالفصل بين الدين والسياسة بل إن عقيدتهم ترى بأن الدين هو في قلب السياسة وأنه لا سياسة من دون دين والعكس كذلك وهذا ما جعلهم يعتبرون أن الانتخاب واجب مقدس ومحطة يلتقي فيها المؤمن مع الرب يسوع بل أكثر من ذلك فإنهم من خلال مشاركتهم في الانتخابات لا يرون ذلك على أنه صراع بين يسار ويمين وإنما دافعهم إلى ذلك هو خوض معركة من نوع آخر إنها معركة بين الخير والشر وأنه عليهم أن يقفوا مع الخير. إن اللافت في هذه المسألة التي تميز المشهد السياسي والديني في الولاياتالمتحدةالامريكية هي أن هذا البلد بقدر ما هو متحرر ويتحكم فيه مبدأ الحرية بقوة بقدر ما هو محافظ في سلوكه وأفكاره وهذا ما جعل الولاياتالمتحدةالامريكية تصنف على أنها بلد ديني حضور المسيحية فيه حضور مكثف ( 74 % من السكان هم مسيحيون ) وهيمنة الانجيليون فيها هي هيمنة واضحة وتأثيرهم لا جدال فيه إلى درجة أن كل مترشح للرئاسية يعمل على كسب تأييدهم من خلال وعدهم بالالتزام بالتعاليم الإنجيلية وبعدم مخالفة أفكارهم والعمل على هيمنة المذهب الانجيلي. فهل سمع بنو جلدتنا من العلمانيين عندنا عن هذه الطائفة الانجيلية التي تتحكم في مصير رؤساء أمريكا وهم الذين يسلخون ديننا ليلا نهارا ويتهمون أصحابه بالتخلف والرجعية ؟