أخذت أمشي وحالة الاضطراب تتراجع وتضعف قليلا قليلا والصديقة الايطالية تحكي.. وتضحك دون توقف.. وبمنتهى الحرية والدلال.. بدت لي شوارع باليرمو في ذلك المساء والحسناء الإيطالية إلى جانبي أجمل وأكثر دفءا.. وأكثر إنسانية.. وكنت أمشي بخُيلاء وزهو.. وظننت في لحظة ما أنني البطل روبرتو مارتيني بالفعل.. كنت أرفع رأسي.. وأنفخ صدري.. ونزلت عليّ حالة من الشجاعة والثقة بالنفس.. بل حالة من الغرور لم أعرفها من قبل.. وكنت أحاول أن اقنع نفسي بأنني لا أختلف عن روبرتو مارتيني في شيء.. هو بطل وأنا كذلك.. هو قوي وأنا كذلك.. هو رجل وأنا كذلك.. هو «بلعوط» وأنا كذلك.. هو «زربوط» وأنا كذلك.. وهنا عادت الى ذاكرتي لقطة عشتها في سنوات المراهقة.. لقد ذهبت ذات مرة الى السينما وشاهدت فيلما من أفلام رعاة البقر وتأثرت كثيرا بأحداث الفيلم.. وخرجت من قاعة السينما وقد أصبحت أرى في نفسي بطل الفيلم.. وصرت أمشي بأكتافي.. وأستعرض عضلاتي.. واتجهت صوب مقهى «لونيفار» بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة ودخلت المقهى وأخذت أدور حول «الطواول».. وأنظر بوقاحة الى كل من كانوا يجلسون في المقهى ويترشفون القهوة بهدوء.. فظنوا أنني مجنون يحاول أن يرعبهم ورحت أطلق النار بيدي الفارغتين على الجميع.. وأصيح (طاف.. طاف).. كنت صبيا صغيرا.. وكنت (جلد على عظم).. ولم أكن في الواقع إلا كعصفور صغير ولكن فيلم (الوستارن) أصابني بحالة تشبه الجنون والهستيريا.. ولم أتوقف عن الدوران في المقهى إلى أن سمعت أحدهم يصرخ في النادل: (خرّج علينا ها الفرخ قبل ما نقوم نهرّسو).. وإذا بالنادل يهجم عليّ وكان كالفيل ويحملني بيد واحدة ويقذف بي خارج المقهى وإذا بي أسقط كالقارورة وسط شارع الحبيب بورقيبة والمارة يتفرجون في ذهول.. لقد ظنوا أنني جثة نزلت عليهم من الفضاء!!! ولم أصدق يومها أنني نجوت من الموت.. فلقد كان من الممكن جدا أن أتهشم وأتحطم على كل المستويات وخصوصا على مستوى الرأس.. وهربت من المكان.. وأنا في حالة رعب.. ونسيت أنني بطل.. وأنني «باندي» وأنني «فرخ ملقوط»! وعاد صوت الصديقة الايطالية يوقظني من ذكرياتي ويعيدني الى شوارع باليرمو.. والى تلبّسي بشخصية روبرتو مارتيني.. أنا الآن لست إلا ذلك البطل الحقيقي الذي تخشاه كل إيطاليا.. أنا الآن «الكل في الكلّ».. مالت عليّ ونحن نمشي وإذا بعطرها يدوّخني من جديد لتقول: روبرتو.. عزيزي.. روبرتو.. يا من سحرني.. هل تريد أن تسهر معي الليلة وتمنحني بعض الوقت لأشعر بأنني مع روبرتو في الواقع وليس في الحلم.. ضحكت في سري.. وسخرت من نفسي دون أن أحسسها بذلك وتساءلت: سبحان الله.. ماذا حدث في هذه الدنيا؟.. هل من المعقول أن تترجاني حسناء.. بل قنبلة جنسية أن أسهر معها..؟ إنني غير مصدّق.. ولكن عندما تذكرت أنني لست ذلك البائس القادم من تونس وإنما أنا روبرتو مارتيني بشحمه ولحمه وقوته وجبروته وسلطانه طردت تلك الأفكار السخيفة.. وأعدت نفخ صدري.. وتظاهرت بأنني قوي بالفعل.. فعادت تسألني: إنني لم أسمع منك الجواب.. فتجاهلتها قليلا إمعانا في إشعارها بأنها ليست مع رجل عادي.. فألحّت على معرفة الجواب.. ولما وافقتها.. فرحت وأخذت ترقص في الشارع وتغني أغنية ايطالية شائعة كلماتها تمجد روبرتو مارتيني.. ثم راحت تصيح: ما أسعدني وأنا في صحبة روبرتو.. ولكن المدهش في الأمر أن الناس كانوا يمرّون ولا يعبؤون لا برقصها.. ولا بغنائها.. ولا بصياحها.. وعندما سألتها عن السرّ قالت: إن الناس في أوروبا أحرار ولا أحد يتدخل ولو بالنظر في شؤون الآخر.. أما عندما تلاحظ أن أحدهم ينظر إليك.. ويتجسس عليك.. ويتدخل في شؤونك فتيقّن من أنه ليس إيطاليّا وإنما هو عربي.. تذكرت عمّ محمد حجام الحومة الذي كان كثيرا ما يقول لي: اسألني أنا على العرب.. أنا نعرفهم مليح.. راهم ما يخليو حدّ في راحة حتى أرواحهم.. يتعبوها.. أنا خدمت مع الألمان وشاركت في حرب «لاندوشين».. وعانيت من العرب.. وعندما ينطلق عمّ محمد الحجام في إطلاق النار على العرب فإنه لا يوقف إلا عندما يضطر الى (تعمير سبسي) جديد.. بقليل من «الطومباك» وقليل من «التكروري»..