الاكيد أنه لا يمكننا مهما كانت الاحوال القبول بأن يعمد بعض الاطراف الى قطع الطريق أمام والي جهتهم من أجل إجبار موكبه على التوقف.. لكي يصغي اليهم ولكي يطلع على أحوالهم.. هذه سابقة.. خطيرة.. لم نعهدها من قبل ولقد تفاجأت شخصيا عندما طالعت بعض تفاصيلها وعرفت أنها قد حصلت بإحدى مناطق ولاية باجة.. والتي اضطر سكانها لاستعمال العجلات المحروقة من أجل إجبار الوالي على التوقف.. وعلى الاصغاء اليهم.. اما وقد حصلت.. فقد لا يمكننا الاكتفاء بتقييدها ضد الثورة.. وضد كثرة طلبات الناس.. والقول في شأنها ان الظروف فرضتها أو اعتبارها من الحركات الاحتجاجية العادية التي تتنامى وتتكرر في ربوعنا هذه الايام. أقول هذا.. لأن ما حصل بمنطقة سيدي اسماعيل.. لابد أن نعتبره مؤشرا خطيرا.. على تواصل الانفلات في جهاتنا.. ولابد أن نصفه بالعلامة الواضحة على فشل بعض سياساتنا الجهوية في مرحلة ما بعد الثورة.. والمسألة لا تخص هذه المنطقة بالذات.. لأنها تتكرّر بأغلب مناطقنا الداخلية الأخرى.. وهي تتلخص في تواصل تردي أوضاعها.. وأوضاع سكانها.. بل انها قد وصلت ببعض الجهات الى حدود التردي الكامل والذي لم يعرفوا له مثيلا حتى في فترة حكم الطاغية. هذه حقيقة ولابد لنا من الاصداع والاعتراف بها.. حتى ولو كانت مرة.. وحتى ولو حاولت بعض الاطراف تجاهلها.. أو محاولة حجبها. وما أقصده يخص.. طريقة تعامل أجهزتنا الرسمية في مرحلة ما بعد الثورة مع المناطق الداخلية.. والتي لم تنجح وهذا أقوله على مسؤوليتي في التخلص من بعض الاساليب القديمة المعتمدة على كثرة الوعود.. الرنانة.. دون ابداء الجدية اللازمة لتنفيذها.. وحتى أكون صادقا.. وصريحا في تناول هذا الشأن فسوف أنطلق في وصفه من الواقع الذي تعيشه أغلب جهاتنا اليوم معتمدا في ذلك على بعض الزيارات التي أدّيتها لها وعلى بعض اللقاءات التي أمكن لي عقدها مع بعض سكانها. هذا الواقع قد بدا لي متقلبا وقد بدا لي صعبا.. في بعض مراحله اما تفاصيله فتتمثل في شعور غريب قد أصبح يخيّم على أغلب اهالي وسكّان المناطق الداخلية.. وهو شعور يعتقدون من خلاله أن الثورة قد فشلت في انتشالهم من أوضاعهم الصعبة.. وأنها لم تحقق لهم ما كانوا يطلبونه أكثر من هذا فإن الأغلبية العظمى من هؤلاء قد أصبحوا يتصوّرون بأن الثورة قد سرقت منهم وبأن أطرافا معينة قد نجحت في السطو عليها.. وفي تحويلها الى أداة لتخفيف أهدافهم الخاصة. أما لماذا تفشى هذا الاحساس لدى عامّة الناس.. فهذه مسألة قد يلزمنا البحث عن الجواب اللازم لها بالعودة الى بداية عهدنا بالثورة وبما حصل إبّانها. في تلك الفترة طلعت علينا حكومة الغنوشي بجملة من الوعود وهبّ بعض اطرافها الفاعلين لمخاطبة الناس عبر القنوات الفضائية.. ولطمأنتهم عن مصيرهم وللتأكيد لهم بأن «الخير كثير» وبأن الحكومة قادرة على حسن توزيعه بين الجميع وبأن كل واحد سوف ينال نصيبه منه.. هذا ما فهمناه وقتها على الاقل.. مما كان يقوله بعض وزراء تلك الحكومة.. والذين تحدث أحدهم عن مبلغ خمس مائة مليار.. وقال أنها سوف توزع بين الناس بالعدل والقسطاس.. ولقد زاد في الطين بلّة.. عندما عمدت تلك الحكومة الى تقديم بعض المساعدات بطريقة مخجلة ومهينة قد ذكرتنا بما معنى.. المهم.. أن ما حصل في تلك الايام قد أثر سلبيا على المفهوم الحقيقي للثورة لدى عامة الناس ولقد زاد من اقتناعهم بأنها قد جاءت من أجل تحقيق كل طلباتهم العاجلة منها والآجلة. أما نتائج ذلك.. فلقد تجسمت من خلال تعدد الاحتجاجات وتكاثرها.. ومن خلال كثرة الطلبات وتنوعها ومن خلال غرابة بعضها حتى أن البعض قد أصبحوا يعتقدون بأن الحكومة مطالبة بتحسين كل الاوضاع وفي رمشة العين وبدون تردد.. وفي نفس الوقت. أكثر من هذا.. فلقد أسهم كل ذلك في إحياء نعرة العروشية بين الناس مما زاد من حدّتها ومما حولها في بعض الجهات الى أداة للتعبير عن غضب بعضهم بسبب عدم تمكنهم من التمتع بما أمكن لغيرهم التمتع به. اليوم وحتى بعد أن جاءت حكومة سي الباجي وأبدت الاستعداد للاهتمام بأحوال الجهات وبواقعها وأقرّت البرامج اللازمة لذلك فإنها لم تنجح في هذا المسعى ولم تتمكن بعد من تغيير ما يجب تغييره من عقليات الناس بها. والمسألة في نظري واضحة ومنتظرة إذ أن ما أقرته هذه الحكومة قد لا يمكن انجازه أو تطبيقه بين عشية وضحاها في حين أن الناس يتمسكون بتحقيقه لهم.. وبدون تأخير مما أسهم في خلق أجواء جديدة من التوتر خاصة وقد فقد الاغلبية العظمى ثقتهم في الاجهزة الرسمية ولم تعد الوعود قادرة لوحدها على بعث الطمأنينة في قلوبهم.. أما ما بدأنا نخرج به من كل ذلك فإنه يتلخص فيما يلي: محاولات جادة يقوم بها الولاة من أجل الاستجابة لطلبات الناس وعجز واضح من لدنهم على ذلك بحكم غياب البرامج والاعتمادات الواضحة والتي تمكنهم من تحقيق المطلوب. تدفق كبير من الطلبات الواردة على الولايات وعلى الولاّة بصفة خاصة من طرف كل الفئات. تركيز واضح من طرف سكان كل المناطق وبخاصة النائية والمحرومة منها على الرغبة في تحسين اوضاعهم وأوضاع مناطقهم.. غياب واضح للبرامج التنموية اللازمة والقابلة للتنفيذ المباشر.. والخاصة ببعض المناطق. حجز الهياكل الجهوية على تغيير واقع كل الناس وكل المناطق نحو الافضل والاكتفاء غالبا بالاطلاع على هذا الواقع وبتسجيل الطلبات الخاصة بتحسينه. شعور بالاحباط من طرف الناس بسبب ذلك وتخوف من المستقبل وخوف من تواصل فساد أحوالهم وبداية ظهور تململ بينهم لعله قد يتحول الى بوادر احتقان والى بؤر للتوتر مما قد يهددنا بانطلاق ثورات جديدة. اصرار البعض على التعبير عن قلقهم وعن احباطهم وعن توترهم بكل الوسائل والطرق.. والتي لا تخلو بدورها من علامات التوتر. اما الجديد في كل هذا فهو أن يتحول هذا التعبير الى براكاجات ينفذها البعض ضد المسؤولين الجهويين من أجل اجبارهم على تفهم أوضاعهم.. وهذا ما حصل بباجة مؤخرا والذي اعتبرناه مؤشرا خطيرا على سوء وتدهور احوالنا الجهوية خاصة. هل تعي الحكومة الحالية خطورة ما حصل.. فتسارع بمزيد الاهتمام بالجهات هل تفهم كل هذه الاطراف التي تكثر اليوم من الحديث عن مستقبل تونس بأن هذا المستقبل لا يخصهم ولا يعنيهم لوحدهم وبأن اطرافا اخرى تشرئب أعناقها وتتوق من أجل فهم حقيقة هذا المستقبل. هل يفهم كل هؤلاء.. بأن حديثنا الطويل العريض هذه الايام عن الكراسي.. لا يمكنه أن يشغلنا عن الحديث عمّن سوف يسهمون في ايصالنا اليها.. هذا ما نتمناه.. وما نكتفي عن التعبير بالرغبة في تحقيقه وهو أضعف الايمان من لدننا في الوقت الحاضر على الاقل. أقول هذا لأن الناس قد ملّوا من التعامل معهم وفق ذلك المثل القائل استنّي يا دجاجة خاصة وأن القمح لم يصلهم من باجة والتي شهدت مؤخرا حادثة البراكاج ضد الوالي واكتفي بقول هذا.