لم أكن أعرف هذا الاسم للشحرور. ولكني كنت أستمع إليه في كلّ فجر.. هو أول عصفور يزقزق. يوقظني مع الرابعة والنصف فجرا. تقترب موسيقاه شيئا فشيئا من نافذتي، ثم بعد بضعة دقائق يندفع لعالم آخر. أحاول أن أسبح في نومة أخرى... لكن بعض ما حصل بالأمس عاد إلى ذهني ولم يلامس النوم جفني.. هو الحاج سعيد الذي حرمني من نومة صباحية في هذه الأيام الاستثنائية في حياتنا، أيام الحجر الصحي. لاقيته بالأمس في طابور المخبزة المجاورة. حاول الاقتراب مني فأشرت له بيدي ألاّ فعل.. لكنّه أجبرني على مغادرة الطابور لأمر مهم يرغب مني أن أبدي له رأيي فيه. لقد ذهب إلى المستشفى وحاول أن يقيم الدنيا ويقعدها حتى وصل إلى الصياح المباح، بأنّ زوجته قد تكون حاملة لفيروس الكرونا... وهو يخاف عليها لدرجة أن أصبح يخاف منها. هي تحمل سرطانا بالثدي وقد أجروا عليها عملية استئصال لثديها من ستة أشهر وهي اليوم تئن من ألم بالصدر وسعال من حين لآخر. هذه هي العوارض... هو يقصد الأعراض.. لكنّ كلّ الناس أصبحوا يتكلمون عن العوارض.. وحتى تلك المقدمة للبرامج الصحية التي كنت أهديتها معجما في الغرض.. تصرّ على العوارض. "لقد رفضوا فحصها... إنّها مصيبة. لقد أجبرت نفسي على اتقاء شرّها..." وحين سألته عما إذا كان بإمكانه الاتصال بطبيبها الخاص أجابني وقد كان لعلّه ينتظر مني هذا السؤال: "طبيبها يطالبني بثمن الكشف، ثم حين أعود إليه بعد شهرين تطالبني السكرتيرة بمبلغ ثان للكشف... والحال أنّه كنترول.. كنترول حتى يتأكّد هو من نجاعة ما قام به، ما قدّم لها.. هذا الطبيب نفسه طلب إليّ أن أجري العملية بمصحة خاصة.. وقد طالب بمبلغ خمسة آلاف دينار. لعلّه يتصوّر أننا دجاج نبيض آلاف الدنانير.. ثمّ هو لا يعرف حتى معنى الأصول... أنا حجيت لثلاث مرات..." أعلم أن الحج قد استنزفبعض مدخراته. لكنّه على يقين بأنّه لم يفعل إلاّ خيرا.. إلاّ ما أمر به الله، حسب تفسيره وما قد يكون ذكره له إمام المسجد. ثم هو على يقين بأنّ على الدولة أن تبني المستشفيات للأهالي. وتكون كمستشفيات باريس. لم لا؟ هذا حقّ لنا. وحين أسأله عما قد يكون دفع للدولة هذه يجيبني: خمسمائة دينار كل عام... كل عام خمسمائة دينار، ورقة تحكّ ورقة. هذا الجزار يتعبني بمنطقه بل ويرهقني. وقد كنت في كلّ مرة أحاول العدول عن نقاش أمر ضريبته التي قد يكسبها دفعة واحدة في ظرف أسبوع.ثم هو قد ساهم، وهو يذكرني بذلك، في بناء جامع جديد بالقرية.. من بين الثلاثة آلاف مسجد وجامع والتي تمّ تشييدها في عهد الثورة المجيدة. أي أكثر مما تمّ بناؤه طيلة أربعة عشر قرنا. تصوّر هناك منأصبح ينادي بعدم أكل اللحوم.. هو قطع للأرزاق يا سي... فتحت التلفاز فإذا بالقناة الإيطالية تطالب الأهالي بالاستمرار في الحجر الصحي رغم نزول المنحنى (الكورب) لأربعة أيام متتالية.. وقلت في نفسي إنّ أمر هذا الفيروس غريب جدا.. قد يعلّمنا دروسا لم نتلقّها ولم نلقّنها بالكليات. والدروس في الحياة مستمرّة. شكرا صديقي على كلمة زرياب وها إنّي ألتقط صورته خصيصا إليك.