لا شكّ أنّ موضوع الكتاب واضح للقرّاء من عنوانه، وبكلمة أوضح: فهو في "حياة وآثار الرجال" من القرى والمدن التونِسيّة جمعها ورتّبها، ثمّ بوّبها وأعدّها دون تمييز بين كاتب وكاتب، سوى شرط واحد، أخضعه في حقّ صاحب الترجمة، وهو أن يكون عنده أدنى "أثر" من كتابة، ولو في شكل رسالة صغيرة، سواء طبعت أم لم تطبع. وهذا (القَيْد) من الأستاذ محمد محفوظ رحمه الله، كنتُ أراه معقولا بل حسنا، وذلك لسببين اثنين: -(1): كثرة التراجِم وسعتُها وامتدادها، ولو أنّه رحمه الله ترك الحبلَ على الغارب، فإنّه واقع لا محالة في بحر مُتلاطم من التراجِم، قد لا يتوقّف عند منتهاه. -(2):أنّ الأستاذ محمد محفوظ رحمه الله كان رجلا (مُعَاقًا)، فهو يجلس ويقوم على كرسي آلي متحرّك، وربّما كان يحتاج في الحركة إلى مساعدة، أو إلى من يقف بجنبه ليكون رهن إشارته. فكلا السببين في نظري كانا عليه أشقّ وأدقّ، إلّا أنّ الرجل ظهر شامِخا في عِداد الأبطال من المؤلفين، حيث تحدّى بكفاءته إعاقتَه، وصراعَه مع المرض: إذ قُطعت رجلُه الأولى، ثمّ أُتْبِعَتْ بقطْع رجله الثانية نصفين.. ومع ذلك كلّه، كانت نتائج عمله المَمْزوجة بالمُعانات المكدودة، التي لا تفارقه صباحَ مساء، حتى أنهى الكتابَ كأحسن ما يكون التأليف؛ ولا ننسى هنا بالمناسبة، ما كان يقوم به على الدَّوام: التنقيب في المَراجِع الطويلة، والنظر في المصادر المتعدّدة، فضْلًا عن الصبر على تَصفّح المخطوطات، وكذلك الرجوع إلى المجلات الكثيرة التي مرّ عليها حين من الدّهر. كلّ ذلك وغيره فعله الأستاذ محمد محفوظ رحمه الله، وهو الرجل العملاق في محنته الصحية، مُتَحَلِّيا بالصبر الجميل ومحتسبًا في آنٍ واحد، وبذلك يكون رحمه الله قد أسدى إلى المكتبة التونِسيّة وغيرها من المكتبات في العالم الخارجي، فيكون كتابه هذا: "موسوعة" في فنّ التراجِم، و "ذَخِيرة" لم يُسبق إليها داخل الوطن العزيز (تونس)، وفي هذا العصر الحديث. لقد كان الأستاذ محمد محفوظ رحمه الله – أثناء استغراقه في تأليفه عامَ (1964م)- لا يكاد يُصَدِّقُ أنّ عمله هذا سيرى النّور، ويخرج إلى عالَم المطبوعات، بعد ما ضاق به الأمل، وخاب مسعاه لدى الناشرين؛ لكنّ الله عزّ وجلّ وهو العالِم بما في الصدور، يسرّ له السبيلَ إلى طباعته خارج الوطن، فما كان من دار الغرْب ببيروت إلى أن أخرجته في (خمسة أجزاء) متلاحقة الواحدَ تِلْوَ الآخر؛ وبذلك فرح بهذا الإنجاز العظيم كما تفرح الأمّ بإنجاب وليدها.. رحمَ الله الأستاذ محمد محفوظ، لما أسْداه للأجيال المتعاقبة من أهل العلم وغيرهم بهذا الأثَر الفريد، والذي نوّهَ به عصْرِيُّه الأستاذ الفاضل محمد السلّامي حفظه الله لقوله فيه تقديرا وتكريما: "أهمّ كتاب ألّفه، ويبقى مرجعا هامّا للباحثين". تقبل الله عملَه في الخالدين، إلى يوم الدين.