اتصفح كل يوم ما تنقله لنا وسائل الاعلام بحثا عن الحلول المقترحة لانقاذ بلادنا من مواصلة التدهور التي هي فيه، لقلة خبرة من تسلموا الحكم، وعدم ادراكهم بالاهتمام بالاهم، ولم اجد فيها سوى المسارات الذاتية المفبركة، او الاعلانات عن ما يلفت النظر من القضايا الاجرامية بأنواعها من اغتصابات، وبضائع مهربة، وقبض على مهربين وما الى ذلك، وكنت اود ان تكون كما يميزها محمود تيمور" ليست الصحافة الا وليدة البيئة، وصورة العصر، ومرآة تنعكس على صفحتها بدوات المجتمع و نزواته"، لكن مع أسفي الشديد تلك الصفات غائبة في اعلامنا، ولدينا ما نستحقه من الشعبوية، ومناقرة ديوك، و عشاق شهرة، و اقلام غير واعية، واما عن الوطنية الاولى والثانية التي نمولهما جبرا، خارج واجب الاداء، فحدث عن ضعف المستوى ولا حرج...اما البحث عن حقيقة وضع الاقتصاد الذي هو حرج للغاية، يعود بنا الى ما كتبه نجيب محفوظ "لا حقيقة في الصحف الا صحيفة الوفايات" ، اذ لم يهتم بالمشهد السياسي المخيب الامل، رغم اكثر من 32 حقيبة وزارية، تضم وجود خمسة وزراء يحملون الجنسية الفرنسية، ووزير يحمل الجنسية البريطانية، إلى جانب جنسيتهم التونسية، وعلى رأس هؤلاء رئيس الحكومة الذي يحمل الجنسية الفرنسية، ويتداول انه يرفض التخلي عنها، و هذا العدد الوافر من الاعضاء، مخالف لما اتت به الطرق الاحصائية، التي تضع حاجزا في دراسة الاعداد، فاذا تعدى الثلاثين، يصبح لامتناه، ولا يمكن فيه تبادل الراي الحر، ولا النقاش المثمر، ويفقد تماما مضمونه، كل ذلك يبعث على الحزن في النفوس، لمن ضحى بالنفس والنفيس، ويزيد على ما تركته الكورونا من اكتئاب، وانهيار عصبي مضعف للعزيمة، والتساؤلات لا تحصى ولا تعد عن هذا الفريق الحزبي، الذي ليس له برنامج، ولا احد يعرف الى اين سيؤدي التناقض بين اعضائه، ولا غرابة في ذلك، فلا احد منهم كان معروفا على الساحة، ومشار اليه بإبداعه او كفئاته، و لم تكن في مسيرته مرورا بكليات اجنبية، لهم شهرة عالمية، والخوف كل الخوف ان وزير الصحة مثلا لم يكن يوما له تجربة سريرية، ولم نسمع انه ناله شرف مسؤولية ادارة قسم طبي، او متخصص في ميدان منه، بل حتى الادارة لم يمارسها اطلاقا، لكنه مناضل في حزب النهضة وذلك اختياره، ولا احد يلومه عليه، حتى ولو يرمي الى قيادتها، وهو امر مشروع، وطموح مبرر، لكن استعمال وسائل الدولة للشهرة مرفوض البتة! وما يلام عليه ايضا انه يتعدى الحجر الصحي الذي هو مسؤول على احترامه، وفي ذلك خرق للقانون، ومن واجب مجلس نواب الشعب تكوين لجنة تقصي الحقائق في كيفية ادارة هذه المصيبة العالمية "الكورونا" في بلادنا، ويؤلمني الحالة التي عليها وضع القطاع الصحي اليوم، وقد نالني شرف العمل بها كمستشار لوزيرة الصحة، ثم كرئيس لديوانها، و التاريخ شاهد على ما بعثنا فيها من اصلاحات، من اعلامية، وتصرف حسب الاهداف، وتعصير على جميع الاصعدة للإدارة، وما الى ذلك من شفافية في التدرج في سلم الوظائف، لان الفريق الذي انتميت اليه، كان يؤمن بمصلحة البلاد لا غير، ولا احد منه كان مسؤولا في حزب، او يتلقى تعليماته منه، ودونا كل ذلك في كتاب اصدره "المعهد الوطني للصحة" الذي بعثناه، وعملوا على تدميره، بتجميد نشاطه، وكان يكون في الصف الاول لمجابهة الكارثة، والتاريخ يذكرنا ان بلادنا مرت بكارثة اخرى، ونفس الوزير كان على راس الوزارة، ومع الاسف لم يقع الاستنتاج الازم، ولم نعرف الحقيقة، واختفت المسؤوليات على الهفوات المرتكبة، وهل التاريخ اليوم يعيد نفسه ؟ ان هذه التشكيلة الحكومية، التي من الواجب تدعيمها لأننا في حالة حرب، ستكون نتائجها المتوقعة سلبية على مر الزمن، وذلك لفقدانها خريطة طريق واضحة المعالم، وزد على ذلك حامت كثير من شبهات الفساد حول اعضائها،"ولو كانت المشاكل، كما كتبه نزار القباني، تحل بالهروب، لكانت الكرة الارضية كوكب مهجور"، والناخب يدرك اليوم أكثر من أي وقت مضى، انه لم يصوت لأي ائتلاف احزاب، او كتل لتقرير مصيره، ولنقده الموضوعي قواعده، له دور هام في تصوره المستقبل، واعادة بناء الطموح الى الافضل، و حتى من تستر تحت صفته المهنية، وغالب الوقت مغلوطة، ولنا في الحكومة من الادلة ما يشفي الغيل، لأن الحكومة هي حكومة احزاب، وليست بالمرة كما يقال عنها حكومة كفاءات، فمن أعضائها من لا يطقن حتى اللغة العربية، فما بالك بدوره في الاقناع، وهذا وزير الدولة يعد بمتابعة ملفات الفساد التي تكاثرت حولها الضوضاء والهمسات: وزير الصناعة و نائب في مجلس الامة، حلّ جامعة الألعاب الإلكترونيّة، تضارب المصالح، الزوجة في مجلس نواب الشعب والزوج وزير دولة وما الى ذلك من ملفات وجب البت فيها في الابان حتى تتضح الرؤيا وتعود الطمأنينة... ، وفي الفريق من سلوكه غير مرضي، يجبر المواطن على الامتثال للحجر الصحي مثلا، لكن وهو الوزير المكلف بالقطاع، لا يتماثل لذلك، يجوب البلاد شرقا وغربا، حتى اثناء الليل، ولا رئيس الوزراء ولا رئيس الدولة ينهيه، لأنه تحت غطاء الحزب الاول في البلاد، طبقا لما افرزته الانتخابات الاخيرة، بقانون وضع على المقياس، ومنذ العشرية التي انقضت غاب، مع الاسف، التحلي بخبرة في التحليل، وحجة في البرهان، وقوة في الدليل، وغابت خريطة طريق مستوحاة من مطالب الشعب وطموحاته، ففشلت الحكومات على التوالي، وجرت في خيبتها كل من ينتمي الى حزب او مجموعة رفاق، ويناضل من اجل افكار رجعية، ويلوح بقدرة آداه حتى في كتابة الشعر، ويروي التاريخ من وجهة خفايا السياسة، فلا لوم عليهم ولاهم يحزنون! ان ثورة الشعب مكنت من الدفاع عن وجهة النظر، بكل حرية، وللقارء، وما وصل اليه من نضج سياسي، يختار سبيله، ويشق طريقة أما مشهدنا السياسي اليوم، لا يحتاج لأي دوي مصطنع، فالمؤسسات مصيرها الزوال، ان كان اداؤها سلبي، وان لم تحترم قوانين بعثها، ولو استعملت الادارة، على احسن وجه، لكان افضل المسالك للمراقبة والزجر، لان من التزامها هو الحياد من كل التيارات الفكرية، والايديولوجية، و حينئذ لو ارصدت المليارات المتأتية من الهبات، و من الاقتراض في مشاريع خلاقة لمواطن شغل، في الجهات الاقل حظوة، لكانت انفع واجدر، لما نحن عليه من منهج باسم ديمقراطية مغلوطة، وتجربة يائسة، تؤدي حتما الى تدهور القيمة المعيشية، وغلو الاسعار ،الى حد لم يعرف مثلهما من قبل، و السؤال المطروح هل بعد الكورونا سيبقى ما يسمى بالمشهد السياسي مسرحا، يتحكم فيه، كان شيئا لم يكن، يواصل الاقتصاد الموازي دوره الريادي، بقيادة اهل المال، يسيرونه حسب رغائبهم وتنفيذا لمصالحهم الآجلة والعاجلة، فتكاثر الجمعيات والاحزاب، بدون رقابة كما هو الحال، مصيره الذوبان، كالصحف الورقية التي برزت بغزارة، والاذاعات المتنوعة والفضائيات التي تسيرها احزاب مشكوك في مصداقية مواردها، كل ذلك باسم حرية الراي ، والغريب في الامر، ان موضوع تمويل وسائل الاعلام، لم يدرج بعد على طاولة النقاش على غرار البلدان المتقدمة، لأنه بات من الصعب جدا، أن تتمكن صحيفة يومية الاستمرار، ان لم تكن لها دعم من الدولة، او مال متات من الاشهار و توابعه، والسؤال البديهي هو الآتي: هل مازالت، رغم تجربة السنوات الاخيرة الفاشلة بكل الموازين، الانشغال بمسيرة الاصلاح والتغيير، التي تستدعي الثبات على المبدأ، والنضال من أجل اختيار الوفاق والاستقرار؟ أليست اعادة بناء المستقبل فوتنا فيها اكثر فاكثر للمؤسسات المالية التي لا مفر من الالتجاء اليها وطلب دعمها؟ لكن قبل ذلك من المحتوم المرور بنقد الحاضر، واستخراج العبر من هفواته، وحكام الاحزاب تخشى ذلك و لا تتجرا على مغامرة طريق الشفافية، لان الضبابية مرجعها، وحماية روادها، فوق كل اعتبار، اهم من مهمة تطوير المجتمع، والخروج به الى مستوى المجتمعات العصرية الجادة في الرفع من منزلة الانسان، واستكمال مقومات كرامته، وان كانت حصيلتنا و مكاسبنا العائلة الواسعة التي كانت تؤمن بالمنهج البورقيبي وركائزه، رغم ما قيل فيه وعنه، عظيمة في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والشعور بالاطمئنان، والثقة في النفس، كل ذلك مكن من الاكتفاء الذاتي بالإنتاج والانتاجية، ومن تواصل المسيرة التي بناها الشعب، بجميع اصنافه الفكرية والسياسية، وكانت ملحمة الرقي الكبرى التي تعطلت بالانقلاب الطبي وازلامه، ولا احد من الاحزاب له تصور للمجهود الجماعي المقنع في بناء المستقبل، وازداد التعكير نتيجة الكورونا، وان اصبح الحكم مشتركا من الاحزاب الاقوى تنظيما لانتهاء المرحلة، لذلك وجب اختيار فريق من خارجها، يتحلى بالموضوعية، والكفاءة والدراية، يكون شغله الشاغل، تطوير البلاد، واخراجها من الوحل التي هي فيه، وكفانا من نكران ذلك، فعهد التمويه والتباهي، ولى وانتهى، بدون رجعة، والفترة الانتقالية، بزلاتها، ومنزلقاتها دمرت العزائم، ولنفتح جميعا صفحة جديدة لمجابهة الامور، واعادة تركيبة المستقبل، بمساهمة المجموعة الوطنية، لرفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية، في كنف اطار تعاقدي، يكون مصدر ميثاق شرف وطني، نترقبه البلاد من حزب الاغلبية وهو العمل على الدخول حالا في مفاوضات مع المنظمات الوطنية، لتكوين جبهة داخلية، تحافظ على السلم الاجتماعية، وتتصدي لمخلفات الكورونا، وتنقض البلاد من الوحل التي هي فيه والذي سيزداد عمقه، ولعمري أن هذه الدعوة "لمصالحة تاريخية" يقودها حزب الاغلبية، تؤدي به حتما إلى الوفاق الوطني، والمشاركة في الإصلاح الجماعي لمن يريد البلاد ان تواكب عصرها، في وحدة صفها، لوحدة مصيرها، ويرجع الدر الى معدنه ونتجنب عواصف التشاجر والتناحر. رجب حاجي: دكتور في الاحصائيات- دكتور في الاقتصاد- شهادة تكوين مستمر بجامعة هارفارد (الولاياتالمتحدة)- شغل رئيس ديوان وزيرة الصحة، مستشار محمد الناصر رئيس مجلس نواب الشعب