لا شك ان كل من يقرا القران بتفكر وتدبر وإمعان لابد ان تستوقفه الآية الأولى من سورة النور والتي يقول فيها ربنا سبحانه وتعالى العزيز الغفور(سورة انزلناها وفرضناها وانزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) افلا يجب ان يتساءل هذا القارئ المفكر المتدبر لماذا تكرر فعل انزلنا مرتين في هذه الآية ؟ وما معنى فعل فرضناها الذي يفصل بين فعلي انزلنا ؟ ولماذا ختمت بفعل تذكرون ولم تختم مثلا بفعل تتقون او تعقلون كما ختمت غيرها من ايات السور في كتاب الله المكنون؟ سنبحث كعادتنا عن اجوبة لهذه الأسئلة من خلال تفسير التحرير والتنوير لصاحبه العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور الذي عودنا بتفسير ايات القران لغة وعقيدة وتشريعا وتاريخا وغير ذلك من العلوم الضرورية في هذا الزمان التي يجب ان تتوفر في كل من يتصدر لتفسير القران... يقول الشيخ رحمه الله(يجوز ان تكون (سورة) خبرا عن مبتدا مقدر دل على ابتداء السورة فيقدر هذه سورة...وجملة (أنزلناها ) وما عطف عليها في موضع الصفة ل(سورة) والمقصود من تلك الأوصاف التنويه بهذه السورة ليقبل المسلمون بشراشرهم على تلقي ما فيها وفي ذلك امتنان على الأمة لتحديد احكام سيرتها في احوالها ففي قوله( انزلناها ) تنويه بالسورة بما يدل عليه (انزلنا) من الاسناد الى ضمير الجلالة الدال على العناية بها وتشريفها وعبر ب(انزلنا) على ابتداء انزال اياتها بعد ان قدرها بعلمه وبكلامه النفسي فالمقصود من اسناد انزالها الى الله تعالى تنويه بها وعبر عن انزالها بصيغة المضي وانما هو واقع في الحال باعتبار ارادة انزالها فكانه قال اردنا انزالها وابلاغها فجعل ذلك الاعتناء كالماضي حرصا عليه وهذا من استعمال الفعل في معنى ارادة وقوعه كقوله تعالى (اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية ...واريد هنا قبل ان اواصل كلام الشيخ ان الاحظ ملاحظة مؤسفة والحق يقال ومضمونها انني سمعت ماشاء الله من الأساتذة ومن الدكاترة ومن الخطباء يذكرون اية الوضوء ولكنني لم اسمع ان احدا منهم قال مرة مثل هذا الكلام العلمي عن فعل قمتم الذي قاله الشيخ وهو(استعمال الفعل في معنى ارادة وقوعه) الم اقل منذ سنين اننا نفتقر اليوم الى علماء في مكانة الشيخ بن عاشور الذي اظن من باب اليقين ان تونس لا ولن تظفر بمثله بعد ايقاف وابطال التعليم الرسمي بجامع الزيتونة بقرار فجئي سياسي اصاب التونسيين بالبلاء المبين اعود بعد هذه الملاحظة الضرورية الى تفسيرالشيخ الذي يقول (والقرينة قوله (وفرضناها ) ومعنى (فرضناها ) عند المفسرين اوجبنا العمل بما فيها ...والذي اختاره ان يكون الفرض هنا بمعنى التعيين والتقدير كقولها تعالى( نصيبا مفروضا)...فالمعنى وفرضنا اياتها ...واما قوله (وانزلنا فيها ايات بينات) فهو تنويه اخر بهذه السورة تنويه بكل اية اشتملت عليها السورة من الهدى الى التوحيد وحقيقة الاسلام ومن حجج وتمثيل ما في دلائل صنع الله على سعة قدرته وعلمه وحكمته وهي ما اشار اليها قوله(ولقد انزلنا اليكم ايات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين) وقوله (الم تر ان الله يزجي سحابا)الى قوله (صراط مستقيم) ومن الايات البينات التي انزلت فيها اطلاع الله رسوله على دخائل المنافقين مما كتموه في نفوسهم من قوله (واذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم اذا فريق منهم معرضون ) الى قوله تعالى (ان الله خبير بما تعملون) فحصل التونيه بمجموع السورة ابتداء والتنويه بكل جزء منها ثانيا ...وكلمة (فيها)تؤذن باستعارة مكنية بتشبيه هذه السورة باغلاق نفيسة تكتنز ويحرص على حفظها من الاضاعة والتلاشي كانها مما يجعل في خزانة ونحوها ...فقوله (وانزلنا فيها) هو بمعنى وانزلناها ايات بينات ووصف (ايات) (ببينات) اي واضحات مجاز عقلي لان البين هو معانيها واعيد فعل الانزال مع اغناء حرف العطف عنه لاظهار مزيد العناية بها والوجه ان جملة (لعلكم تذكرون) مرتبطة بجملة (انزلنا فيها ايات بينات) الايات بهذا المعنى مظنة التذكر اي دلائل مظنة لحصول تذكركم فحصل بهذا الرجاء وصف اخر للسورة وهو انها مبعث تذكر وعظة والتذكر خطور ما كان منسيا في الذهن وهو هنا مستعار لاكتساب العلم من ادلته اليقينية بجعله كالعلم الحاصل من قبل فنسيه الذهن الي العلم الذي شانه شان ان يكون معلوما فشبه جهله بالنسيان وشبه علمه بالتذكر...) التحرير والتنوير الصفحات من 141 الى145 الجزء الثامن عشر المجلد الثامن) فارايتم رحمكم الله كيف يكون حقا التفسير الغزير وكيف يتحقق فعلا التحرير و التونير؟ اليس مثل هذا الشيخ حقا هو الذي يجب ان يطلع على علمه و ان يستفيد منه المسلمون؟ اوليس هو الذي يجب ان يقتدي بتفسيره المفسرون الحاليون؟ اما كان في شك او ريب مما اقول فليتنا بتفسير وتحرير وتنوير اعمق واغزر من هذا التفسير واننا سنكون له من الشاكرين وسنتعلم منه مما لم نجده في كتاب شيخنا الطاهر بن عاشور ولو اننا نرى مسبقا ان هذا الأمر اصبح شبه مستحيل في ابناء هذا الجيل الذين سمعنا وعلمنا بما عندهم من علم فلم نجد تعليقا عليه افضل وابلغ واحسن من ذلك القول الذي حفظناه عن حكماء التونسيين منذ سنين(صبعين والحق الطين)