5- سورة البلد توجّهنا لكيفيّة تسيّر المدينة (ج1) -سأذكر السورة التي تحمل عنوان "البلد" وهي تُوَجِّهُنا كيف نُسَيّر المدينة لكي لا تَنْقلِب إلى جهنّم للأرامل واليتامى والمقصود بالمدينة هي مكّة التي كان الرسول مقيما بها عند نزول هذه السورة والتي طُرِد منها متفاديّا بأعجوبة اغتياله. وسبب محاولة اغتياله أنّه كان يقلق الأغنياء والأرستقراطيّة التي تُمْسِك بالسلطة. حيث كان يدعو للإيمان بالله الواحد وإلى العدالة تجاه الفقراء فهو يدعو لصعود طرق العقية ويحثّ الأغنياء على إتّباع هذا الطريق.ففي كلّ تاريخ الإسلام لم يأتِ أي رجل ليجعل من النبيّ قدوة له ليتّخذ نفس المواقف مضحّيا بحياته إن لَزم الأمر للوقوف ضدّ السلطة مثلما فعل ذلك الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- وعمل لكي تساس المدينة طبقا لقاعدة أهداف الزكاة. سورة البلد :"لأقسم بهذا البلد. وأنت حلّ بهذا البلد. ووالد وما ولد. لقد خلقنا الإنسان في كبد. أيحسب أن لن يقدر عليه أحد. يقول أهلكت مالا لبدا.أيحسب أن أم يره أحد. ألم نجعل له عينين. ولسانا وشفتين. وهديناه النجدين .فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فكّ رقبة .أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة. أو مسكين ذا متربة. ثمّ كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة. ألائك أصحاب الميمنة. والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة .عليهم نار موصدة . سورة البلد هي قصيد جميل جدّا من النثر الفنّي مسجوعة ومقفّاة جاءت في20 آية بنفس ونسق مُتَسارع وهي تلهث في تدافع للتحريض والتحذير وقد جاءت في خمس فقرات فبعد الفقرة الأولى وضعت آية لدعوة الإنسان بقوّة لكي يعلم أنّ قدرته محدودة وأنّ هنالك في الوجود من هو أقوى منه وأنّه سيحاسبه في يوم من الأيام وهو يوم العدل أي يوم الدين والذي ذكر في أوّل سورة في القرآن وهي السورة التي نبدأ بها كلّ صلاة والصلاة الأخت التي لا تنفصم عن الزكاة التي هي مساهمة اجتماعيّة جماعيّة ضدّ الجوع . وإلّا فإنّ هذا الإنسان سيكون منسيّا في ذلك اليوم وسيُذَكّرُ في ذلك بقوّة وعندها سيُنْكر فتُوصَد عليه دائرة النار. فالفقرة الأولى من هذه السورة تخبرنا بأنّ الحياة معركة صعبة فالإنسان في صراع مع غرائزه الملازمة لطبيعته مثلما خلقه الله. وهذه الغرائز تدفعه للظلم وعدم العدل هكذا خلق الله الإنسان لكن مكّنه في نفس الوقت من الاختيار الحرّ عندما خلقه في السابق بخصوصياته البشريّة وقد وعده سبحانه بالمساعد فالله تعالى يقول في سورة البقرة الأية 38 :" قلنا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وقد أوفى الله وعده فأرسل رُسُله حاملين الإعلام والتحذير والهداية وكان محمّد-صلّى الله عليه وسلّم- خاتمة الرسل والقرآن خاتمة الهداية للذين يؤمنون بكلّ حريّة ويريدون أن يتّبعوا هدايته. فسورة البلد هي جزء من الهداية و وجب أن تفهم على هذه الصيغة فهي تهدي الإنسان إلى كيفيّة التغلّب على غرائزه ليُعَزّزَ المجتمع العادل والمتضامن. كما أنّ الله يقول كذلك لرسوله أنت تعيش في هذه المدينة "مكّة " وتعلم ماذا يقع فيها فالوضع ليس على أحسن ما يرام فالجَشَع يسيطر على الناس والشُحُّ يسكن أنفس سكّانها حتّى في العلاقة بين الأزواج يقول تعالى في سورة النساء الآية 128:" وإن امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" لذلك فالله يحذّر إذْ أنّ النجاح إلى جانب من ينتصر على شحّ نفسه يقول تعالى في سورة التغابن الآية 16:" فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خيرا لأنفسكم ومن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُو ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كما نبّه تعالى الإنسان من شحّ نفسه في الآية التاسعة من سورة الحشر. هذا التحذير من طرف الله لم يكن مبالغا فيه فالمكّيون كانوا يدفنون فَتَيَاتِهم أحياء خوفا من الإملاق ولكي لا يطعموا أفواها لا فائدة منها والله يواصل التحذير في سورة التكوير في الآيتين الثامنة والتاسعة:"وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت" في هذه الأجواء المشحونة بالشح يجب أن نضع سورة البلد فالمكِيون لم يكونوا على استعداد للتفريط في أموالهم وذلك للقيام بالتعاون الاجتماعي التي هو غريب تماما على عقليتهم والذي أصبح معتادا في عقليتنا اليوم.فتعليمات القرآن جاءت متقدّمة على عصرهم.فكيف يمكن لصنّاع الشريعة أي يفهموا روح القرآن ويجعلوا منها المدافع عن الفقراء عند التطبيق؟ لكن تعليمات القرآن تبقى دائما واحدة فهو مثل السراج المنير و طريق العقبة الوحيد التي تؤدي للآخرة فالزكاة مثل الصلاة جزء من العبادة والذي يُؤَدِّي الصلاة عليه أن يُؤَدّي الزكاة من تلقاء نفسه فليس في حاجة لشريعة للقيام بهذا العمل لأنّ الشريعة وُضِعتْ من أناس خاضعين للسلطة(للحكّام) وهذا في حدّ ذاته عائق أمامهم. فهي(الشريعة) توفّر كلّ أنواع الحيل لصالح الأغنياء لكي لا يؤدّوا الزكاة وهم مرتاحو الضمير أو هم يجعلونهم يدفعون الحدّ الأدنى ممّا يجب عليهم دفعه والأتعس من ذلك فهم يضعون كلّ حمل الزكاة على الفقراء. وهذا أوج العبث الذي من الصعب تصوّره لكن مع الأسف هكذا كانت تسير الأمور وتريد الشريعة أن يتواصل هذا العبث ولهذا السبب فأنا لا أريد أن أسمع حديثا عن الشريعة. يتبع.....