حين كان الساكن لقرطاج وكامل الساحل الفينيقي آنذاك يُسأل عن أصله أكان أمازيغيا أو نوميديا كان يجيب بأنه من أصل كنعاني هذا حسب أغلب المؤرخين في زمانهم. وهو ليس حال من تسأله اليوم خاصة إذا ما هو استعان بالمستعمر الفرنسي وكيف حاول أن يلقّنه من تميّز عن إخوانه العرب يجيبك بأنه غير عربي كأنّ في الأمر مفخرة.. وقد توفي الفنان الجزائري الكبير إيدير، بأحد مستشفيات باريس. وخلّف ما خلّف من الفن الجزائري الصرف أقول الجزائري ولا أقول بالضرورة القبايلي.. فبالنسبة لي القبايلي جزائري وكنعاني لحما ودما وتاريخا وجغرافيا قبل كل نعت آخر وصفة أخرى. وسوف أشرح ذلك بعد تقديم تعازي إلى الشعب الجزائري الشقيق وإلى كلّ أهلينا بالمغرب العربي كنت ولا أزال محبا شغوفا بهذه اللغات السامية وبرحلة أهلينا من المشرق إلى المغرب. والحقيقة أنه توجد عدة رحلات عمّرت هذه الأرض المغاربية. بدءا بالكبسيين من جنوب الصحراء إلى الأمازيغ من الشام ومصر وليبيا إلى البونيين والعرب من المشرق. وقد كان حميد شريط، إيدير، اشتهر خاصة بأغنيته: يا أبي نوفا تحملنا الأغنية الرائعة إلى أجواء الجبال المثلّجة بالجزائر حيث توجد عائلة أنهكها الفقر.. ويتم في الأغنية حوار بين شيخ ملتفّ في بُرْنُسِهِ وابنته المهتمة بالبحث عن لقمة العيش... وفي الأسرة طبعا نجد عجوزا تنسج الصوف على منولها، وبعض الأطفال حولها يحلمون بحلول الربيع المقبل وأفراحه وغلاله ..وتحتجب الأنجم والقمر ويتوسّد الأطفال أمانيهم بسماعهم لخرافات وحكايات أمي سيسي كما ذكرت لي شخصيا ذات باريس الفنانة طاووس عمروش وقصت علي أياما جميلة قضتها بتونس. والأسطورة الجزائرية للأغنية لها من العمر ألفا سنة وهي تقص علينا ما حصل لفتاة تقوم طوال النهار بالأعمال الفلاحية. وعند الغروب ها هي تعود إلى البيت... غير أن أباها خوفا من وحش الغابة لم يكن مطمئنا عند فتح الباب لابنته.. وانتهيا بأن اتفقا على سر بينهما وعلامة تؤكّد أنها ابنته فعلا فيفتح الباب مطمئنا.. أبابا نوفا: (هي) أرجوك افتح لي الباب.. يا أبي "إينوفا" (هو) رجرجي أساورك.. يا ابنتي "غريبا" (هي) أخشى وحش الغابة.. يا أبي "إينوفا" (هو) وأنا أيضاً أخشاه.. يا ابنتي "غريبا" الشيّخ متلفّح في البُرْنُسِ منعزلٌ جنب الحائط يتدفّأ وابنه المهموم بكسب القوت يفكّر في الأيّام القادمة وزوجته ناسجة خلف مندالها تحيك الخيطان دون توقّف والأطفال حول العجوز يصغون إلى ذكريات أيام زمان الثلج رابض خلف الباب و "الإيحلولين" يسخن في القِدْرِ والأعيان تحلم بالربيع المقبل القمر والنجوم ما تزال مختفية و حَطَبة البلّوط تحلّ محلّ حصيرة الصفصاف والعائلة مجتمعة تستمع بشغف لحكايا زمان ما أجمل هذه الكلمات حين يقولها صاحبها باللهجة الأمازيغية! وما أروعها حين نقولها كذلك بالكلمات العربية!! تدور الأغنية الأسطورة في هذه الجبال الأمازيغية وتتلخّص في كفاح الفتاة "غريبا" من أجل لقمة العيش لأهلها بالبيت: والدها العجوز "إينوفا" وإخوتها وأمها، في هذه الأرض الجزائرية. وما يهمني الآن هو أني أطلب إليكم إعادة سماع الأغنية الجميلة هذه وسوف تجدون أن لثلاثة أرباع الكلمات قواسم مشتركة مع الكلمات العربية... ولا وجود أصلا لكلمة واحدة يمكن أن تسير بنا إلى كلمة لاتينية بصورة عامة ولا فرنسية بصورة خاصة. فكيف يتنكّر البعض لحقيقة بديهية مثل هذه؟ وخاصة بين من يدافع عن لغة التيفيناغ كما لو نزلت من المريخ والحال أنّها لغة متجذرة كما اللغة البونية والقرطاجية والعربية في الأصل الكنعاني المشترك! لا وجود هنا لكلمة واحدة تنتمي إلى الحقل اللغوي الفرنسي. لكن كم من إخوتنا الأمازيغ يرفضون هذه البديهيات. يجيبونك: معيز ولو طاروا أعيدوا سماع الأغنية كما فعلتُ... وسوف تجدون أنكم حتى وإن لا تملكون الأمازيغية سوف تفهمون أغلب كلماتها. لأن أصل الكلمات هذه واحد مشترك متشابك مع اللغة العربية. رحم الله الفنان حميد شريط.