روى المقريزي في كتابه «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار».. قال: «لما سار المأمون في قرى مصر، وكان يقيم بالقرية يوما وليلة، اجتاز بقرية يُقال لها طاء النمل، ولم يقم بها، فتوسلت اليه عجوز بالقرية في الاقامة فأسعفها، وأحضرت من لوازم نفقة الخليفة وجنوده ما عظم لديه أمره، وأهدت له حين عزم على الرحيل عشرة أكياس من سكة الذهب، كلها ضرب عام واحد، فازداد تعجبه وقال: «ربما يعجز بيت مالنا عن مثل هذا».. وردّ عليها مالها رفقا بها، فلم تقبل وقالت: «هذا مشيرة الى الذهب من هذه، أي طينة الأرض، ثم من عدلك يا أمير المؤمنين وعندي من هذا شيء كثير».. فقبله وأعظم جائزتها». أردت نقل هذه الحكاية من تراثنا الزاخر بالقيم والعبر، وبلادنا، كما بقية البلدان العربية الأخرى، تعيش ظرفا استثنائيا في تاريخها الطويل، لما تحمله مثل هذه الحكايات من دلالات ومقاصد ورموز تحثنا على استيعابها والاهتداء بمبادئها. فنحن، اليوم، بحاجة أكيدة وماسة الى استقرار أمني وعدل شامل لتنمية مقدراتنا الاقتصادية، والارتقاء بالأوضاع الاجتماعية لكافة الفئات، وخاصة منها تلك التي عانت من التهميش والاقصاء، فكانت في مقدمة مفجّري الثورة. فالحرية والكرامة، وقد مثّلتا المضمون المزودج لشعار الثورة، تتطلبان أمنا وعدلا، يجسّمان هاتين القيمتين، فبدون الأمن والعدل لا يمكن للحرية ان تنمو، ولا للكرامة ان تستكمل مقوماتها. إن الرفاه الاقتصادي والاجتماعي، الذي يعتبر المحضنة الطبيعية للحرية والكرامة، لن يتحقق أبدا في ظلّ الفوضى وعدم الاستقرار وغياب العدالة، فالمسألة مشدودة الى جدلية من الارتباط العضوي بين عديد العناصر، التي تتكامل فيما بينها على وتيرة واحدة. فالحرية والكرامة والديمقراطية والرفاه، كلها توائم لا تنفصل، ولكنها تبقى دوما بحاجة ماسة وأكيدة للأمن والعدل. فالناس، في حالات الفوضى، تلتفّ بأردية الخوف والجمود، وتوقف سعيها في الأرض، مما يعود بالوبال على أوضاعها، فتُهْدَرُ كرامتها، وتُسلب منها حريتها. فالفرد المعوز، الذي يعاني البطالة والحاجة وفقدان موارد الرزق، بسبب انعدام الأمن والعدل، لا يمكن ان يكون حرّا وكريما. فمثال تلك المرأة القروية التي بسطت ثراءها أمام المأمون وهي تُردد «من عدلك يا أمير المؤمنين» يؤكد، بوضوح، ان الشعور بالاطمئنان يدفع الناس الى العمل والبذل ومداومة الجهد، وبالتالي المساهمة الفاعلة في تعميم الخير على الجميع. وتلك هي الكرامة في أبهى مظاهرها، والتي تجعل الانسان حرّا، مؤتمنا على مصيره، متحكما في خياراته، اذ ليس أشدّ من الحاجة تكبيلا لحرية الانسان، وإهدارا لكرامته، وليس أقسى وأمرّ من البطالة ك : «حضن لكل الموبقات» كما يقول فولتير. إن تحقيق مقاصد الثورة يمرّ، إلزاميا، عبر توفير الأمن والعدل وهما أساس العمران. فبعد أكثر من مائة يوم من الثورة، مازالت بلادنا تنتظر القطع النهائي مع الفوضى والتسيّب والانفلات، لتأمين الاندراج الفاعل في مرحلة التأسيس والبناء، فلا بدّ من وعي جماعي، واستفاقة شاملة وشعور كامل بالمسؤولية للوصول الى شواطئ الأمان.