هذا هو الجزء الثالث من مقالاتنا عن الفرق بين احاديث الجيلين المشار اليه في العنوان والتي اخترنا فيها الاستناد الى حديث من أحاديث الأديب الراحل عباس محمود العقاد الذي ضاع مع الأسف والحسرة اسمه وضاعت اعماله بين مثقفي هذا الجيل في هذه البلاد ولا اظن الذنب ذنب هذا الجيل وانما اقول واكرر وسأظل اكرر ان اللوم كل اللوم وان الذنب كل الذنب يلقى على من خططوا لهذا الجيل الجديد منذ ثلاثين سنة تقريبا برامج تعليمه وبرامج ثقافته فانتجوا واخرجوا جيلا ناقصا ضعيفا في معارفه وفي علمه وفي تربيته وفي دينه وفي ادبه... واغلق سريعا هذا القوس الذي رايت فتحه ضروريا في التقديم لهذا المقال لافتح المجال مجددا لحديث الأديب محمود العقاد في جزئه الثالث الذي يقول فيه(اما اذا كنت المسالة مسالة مزاجية محضة فقد تسمع النقيضين من الشاعر الواحج بل تسمع النقيضين من الشاعر الذي اشتهر بالاقبال على الحياة والاقدام على الموت في سبيل المجد والسلطان فان المتنبي الذي يقول(واذا لم يكن من الموت بد فمن العجز ان تموت جبانا) هو الذي يقول(ومراد النفوس اهون من ان نتعادى فيه او نتفانى) وهو الذي يقول(وما الدهر اهل ان نؤمل عنده حياة وان يشتاق فيه الى النسل) لكنك مع هذا الاختلاف تلمس علة الزهد هنا وعلة الطموح هناك فاذا هما يصدران عن خليقة واحدة وهي خليقة الأنفة والكبرياء فالرجل هنا لا يعرض عن الحياة قناعة بالقليل وعجزا عن تكاليف الجد والطموح ...معاذ الله بل يعرض عن الدهر تعاليا على لدهر وايمانا بان هذا الدهر غير اهل لبقائه فيه وابقاء بنيه...وكذلك اذا غامر فانما يغامر ويقول( واني لمن قوم كان نفوسهم بها انف ان تسكن اللحم والعظما) فيتجلى الفرق بين الحالتين حين تصدران من خليقة واحدة وبين الحالتين حين تصدران من خليقتين متناقضتين قال يزيدبن المهلب (تاخرت استبقي الحياة فلم اجد لنفسي حياة غير ان اتقدما) وقال ابو فرعون التميمي (وما بي شيء من الوغى غير انني اخاف على فخارتي ان تحطما) ولو كنت مبتاعا من السوق غيرها لدى الروع ما باليت ان أتقدما) شعر من بحر واحد وقافية واحدة في موضوع واحد ولكنه يريك مدى الاختلاف بين المزاجين والطبيعتين من حيث ترى ان المزاج واحد في طبيعة المتنبي وهو يدعو الى الزهد والقناعة او يدعو الى المغامرة والطموح فالترجمة الصادقة اذا تمت لامة من الامم في حكمة شعرائها فعلامة التمام ان تكون ترجمانا لكل حالة وحجة لكل مستشهد وصورة متجلية لكل مزاج من امزجة الحياة العامة او الخاصة وهكذا كان الشعر العربي في عصور القوة والمجاهدة وعصور الاضمحلال او الذبول وحسبك من عصر القوة ان يقول المتنبي في القصيدة الواحدة (ومراد النفوس اهون من ان نتعادى فيه او نتفانى غير ان الفتى يلاقي المنايا كالحات ولا يلاقي الهوانا ولو ان الحياة تبقى لحي لعددنا اضلنا الشجعانا واذا لم يكن من الموت بد فمن العجز ان تموت جبانا) وحسبك من عصر الاضمحلال والذبول ان يقول الطغرائي في القصيدة الواحدة حب السلامة يثني عزم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل فيم اقتحامك لج البحر تركبه وانت تكفيك منه مصة الوشل اريد بسطة كف استعين بها على قضاء حقوق للعلا قبلي وما اخال ان هذه الفلسفة عرضت قط في شعر شاعر الا وهي على هذه الصورة التي نلمح فيها الخلاف ولا نلمح فيها التسليم اما عن اخيكم ابي ذاكر الذي اختار لقرائه هذا الحديث الرمضاني الشيق المفيد العميق من أرشيف الزمن الماضي الجميل فهو يرى ويقول ومن حقه طبعا القول والتعليق انه لا خلاف في ان جيلنا اليوم بعيد عن الغوص وعن التحليق في الحديث عن عالم الفكر وعالم الأدب و عالم الفلسفة الذي كان يشغل عقول وقلوب رجال الثقافة والفكر والأدب في عصر العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم من عمالقة ذلك الجيل العظيم وانما هذا الجيل مشغول باحاديث اخرى تافهة يستحي ان يلتفت اليها فضلا عن الحديث فيها كل ذي فكر رشيد وكل ذي قول سديد وكل ذي عقل سليم...