اخترت وبعد عودتي إلى ارشيفي الشخصي من الصور أن أكتب اليوم عن أستاذي وصديقي الكبير عمرا وقدرا وسيرة ومسيرة... العزيز دائما.... أستاذ الاجيال وأحد رموز الثقافة العربية الأديب الكبير الراحل مصطفى الفارسي رحمه الله صاحب رواية "المنعرج" ورواية "حركات" وصاحب المجموعتين القصصيتين الشهيرتين "القنطرة هي الحياة" و"سرقت القمر" ومسرحيتيْ "قصر الريح" و"والفلين يحترق أيضا"... لقد لازمته فترة طويلة وجميلة... وحملت عنه اروع الذكريات ... كنت كثيرا ما أسافر معه إلى مختلف ولايات الجمهورية في سيارة زوجته مدام جليلة وكان يمطرني خلال هذه السفرات بسرده لأحداث وافرة عايشها عن بُناة الدولة الوطنية الذين كان هو نفسه واحدا منهم. وغالبا ما كنت أشاركه بدعوة من المنظمين في تأثيث المحاضرات وتقاسم الرأي معه في لجان التحكيم بالمسابقات والملتقيات والندوات الوطنية. كنت أتردد على منزله كأحد أفراد العائلة... كان شخصية حيوية مُحاطا بزوجة وفية ومثالية إنها مدام جليلة التي كان لسانه رحمه الله يلهج باسمها في كل أن وحين بلكنته الجميلة: يا جلّو. وكانت هي دائما بدورها محاطة بشقيقها الاخ الخلوق لسعد وبأمّهما وبابنتها الكبرى هيفاء الفارسي وأختها الصغيرة أيضا. وقد حملت هيفاء الفارسي المشعل عن والدها وأصدرت وهي ما زالت في أولى سنوات الثانوي باكورة أعمالها القصصية. وكانت سَميّة بعض المؤلفين المشهورين من الأطفال المنافسين لها في تلك السنوات البعيدة وأعني بذلك الطفلة سمر المزغني والطفل سامي ونّاس. عندما تحصّل سيدي مصطفى الفارسي على جائزة محمد محفوظ بصفاقس اصطحبني معه وكان غاضبا على اللجنة المنظمة لها، لانّه سيتقاسمها مع المخرج السينمائي النوري بوزيد. قال لهم مُحتجّا: لستُ نصف كاتب حتى تعطوني نصف جائزة. وعندما نظمت سنة 1999 ملتقى وطنيا بمدينة سوسة دام مدة ثلاثة أيام وكرمت فيه مصطفى الفارسي إلى جانب الحاج عبد الحفيظ بوراوي والهاشمي زين العابدين رحمهما الله -وهذا الاخير هو والد الدكتور محمد وزير الثقافة السابق- قال الفارسي جملته الشهيرة: صفاقس مَهْبط راسي وسوسة مَرْفع راسي. لقد تربينا في أيام دراستنا في المعاهد الثانوية على كتب ونصوص عدد من رموز الثقافة التونسية على غرار محمود المسعدي والبشير خريف ومصطفى الفارسي ومحمد العروسي المطوي ورشاد الحمزاوي وعبد القادر بالحاج نصر... إلا انّ الفارسي يبقى المتعدد المواهب من بينهم. فقد تم تعيينه وهو في العشرينات من عمره أول رئيس مدير عام للشركة التونسية للإنتاج السينمائي (الساتباك) بقمرت (من سنة 1962 إلى سنة 1969)، وهي شركة إنتاج سينمائي عمومية. كان يُشرف على نشرات الأخبار التي كانت تبث في زمن ما قبل ظهور التلفاز في قاعات السينما. وأشير هنا إلى أنه كان يعرف الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة منذ كان يتردد قبل الاستقلال على منزل الزعيم الشهيد الهادي شاكر بصفاقس وكان الفارسي وقتها طفلا صغيرا وهو الذي كان يتولى تقديم كأس الشاي باللوز لبورقيبة وبقية ضيوف الهادي شاكر من رجالات الحركة الوطنية. عندما زار جمال عبد الناصر تونس في شهر ديسمبر 1963 بعد أسابيع من جلاء آخر جندي من بنزرت طلب الرئيس الحبيب بورقيبة من مصطفى الفارسي بصفته رئيس مدير عام الساتباك أن يتحين الفرصة قبل تصوير اللقاء... سيستقبل بورقيبة عبد الناصر في الطائرة فإذا نزلا معا على سلم الطائرة سيتخلف بورقيبة قليلا عن ضيفه مساحة بعض الدرجات ليبدو بورقيبة في الصورة أطول من عبد الناصر صاحب القامة الفارغة. كما كان للفارسي الفضل في التعريف بالفتاة الإيطالية المقيمة في تونس كلوديا كردينال التي اكتشفها وقدمها في سنة 1958 للتمثيل في دور ثانوي في فيلم "جحا" إلى جانب صديقه عمر الشريف حتى أصبحت ممثلة عالمية بالغة الشهرة. يُعد منزل مصطفى الفارسي متحفا عالميا اذْ يضمّ هداياه التذكارية من أكثر من مائة دولة كان أدى اليها زيارة رسمية، إلى جانب صوره مع الرؤساء وزعماء العالم. لقد كان الفارسي صديق رؤساء العالم وفي مقدمتهم الزعيم ياسر عرفات والزعيم الكوري الشمالي كيم ال سونغ الذي الف عن دولته كتاب "من الشرق تبزغ الشمس: تاريخ كورويا الشمالية" باللغة الفرنسية، ثم ابنه كيم جونغ ايل وهُما جد ووالد الرئيس الكوري الحالي المثير للجدل كيم جونغ ان... خلال الحرب العراقية الإيرانية استدعاه صدام حسين مع عدد من المثقفين العرب. وبعد اللقاء تمت دعوته إلى مقر الاذاعة العراقية الرسمية وقبل انطلاق البث سأله المذيع عن اسم والده. ليتفاجأ الفارسي بعد انطلاق البث بالمذيع يقدمه للجمهور العراقي باسم مصطفى صادق، عندها صاح مصطفى الفارسي: بل اسمي مصطفى الفارسي. .. الفارسي الصفاقسيالتونسي وليس الإيراني. كان دائما يردد مقولة: أنا مقامر مغامر أحب النساء. فتسمعه ابنته فتقول له: ماذا قلت يا ابي؟ فيجيبها: بل أحب الناس. ويضحك جميعنا. وكان مصطفى باهرا في حضوره، كان مثقفا عضويا، وكان ملتزما دينيا، لكن ذلك لم يمنع أحيانا من اكتشافي رشاقته العجيبة أثناء أدائه لرقصة الصالصة مع زوجته في أحد نُزل توزر. عندما توفي مصطفى الفارسي عن 77 سنة في يوم جمعة من سنة 2008 (يوم 8 فيفري) بعد مرض ألم به والزمه الفراش كنت من الاوائل الذين حلوا في غرفته مع أفراد أسرته. وكنا نتجاذب اطراف الذكريات عنه. ولا أدري لماذا انتابتني هيستيريا من الضحك . وأنا أتذكر شخصيته المرحة وألمعيته، وكيف كان يصحبني معه إلى حديقة منزله ليظل يتحدث معي وهو يتأرجح على أرجوحة جميلة منتصبة فوق معشب الحديقة، وكيف كان في مسايراتي معه أو خلال مجالساتي معه يلكزني بمنكبه على عادة أهل جيله عندما يريد لفت انتباهي إلى شيء مهمّ، وكيف كان يمزح ويوزع النكت الطريفة في جلساته... وقد تداركت حرمه الموقف وكانت جدّ متفهّمة على عادتها في رحابة الصدر ورقي الذوق فقالت: "تخرج الضحكة من راس الميت"، وضحك جميع الحضور من غير سبب إلا من رحمة ربي بنا وتخفيفه عنّا لوعة الفراق والأسى. كان يدخن بشراهة وفي إحدى الليالي نفدت علبة سجائره فخرج في الثالثة صباحا بحثا بلا جدوى عن محلّ ليلي مفتوح لبيع السجائر (كشك أو حمّاص) ممّا اضطره في الأخير إلى إيقاف سيارة أجرة ليطلب من سائقها أن يبيعه سيجارة أو بعض السجائر. وبعد أيام قرر الانقطاع عن التدخين حتى لا يصبح أسيرا له. التقيت في أحد الأيام بالروائي العربي الشهير الطيب صالح المقيم في لندن اوالذي أدى زيارة خاطفة إلى تونس، دون أن ينتبه له أهل الثقافة والإعلام فاهداني نسخة مصدرة باهداء لطيف منه لي بخطه الشخصي. وحدثني وقتها عن إعجابه بمثقف تونسي يرى أنه مثقف لم يقابل مثيلا له في الوطن العربي اسمه عبد العزيز قاسم وعن صديقه الروائي مصطفى الفارسي فقلت له عبد العزيز ليست لي به صلة امّا الفارسي فسأعلمه بوجودك في تونس. وهاتفته فجاء مصطفى الفارسي على جناح السرعة برفقة زوجته جليلة فاصطحبنا إلى منزله ودعا عبد العزيز قاسم إلى الالتحاق بنا، فكانت جلسة فكرية شائقة من أمتع جلسات الثقافة والمعرفة... دامت من الضحى إلى الغداء وانتهت قريبا من وقت المغرب. وقد التقط أفراد عائلة سيدي مصطفى الفارسي صورا كثيرة لم أتحصل منذ 18 سنة على نُسخ منها وإلا لكنت عرضت هنا بعضا منها، وهي فرصة لأطلب نسخا ولو إلكترونية منها. ما أختم به هو أنّ الجيل الذي ساهم في بناء الدولة الوطنية -ومصطفى الفارسي من أفراده الأفذاذ- كان جيلا قويا جمع بين فرادة الشخصية وبين حب الناس، وبين الانفتاح على المحيط الإقليمي الآسيوي والأفريقي والأوروبي وكذلك على المحيط الدولي في اعتزاز بالهوية التونسية وسعي إلى تجديدها دون تفريط طبعا في مميزاتها المحلية.