المَجْدُ حُلّتُهُ، وَالجُودُ عِلّتُهُ، والصّدقُ حوزتهُ إنْ قرنهُ هاباَ. خطَّابُ محفلة ٍ فرَّاجُ مظلمة ٍ إنْ هابَ مُعضِلة ً أتى بهاَ باباَ. الخنساء " الشاذلي القليبي هو أحد الذين ساهموا في نحت أسس الدولة المدنيّة، هذا الصادقي الذي درس في السربون جمع بين السياسة والثقافة، يتميّز بسعة الاطلاع وعمق التفكير " عز الدين المدني هكذا بادر بتقديمه أحد الروّاد الذين عاصروه عندما استضافه في مجلته "الأسبوع الثقافي" التي أصدرها عام 2012 ولكنها لم تعمّر وخصّه بداخلها بحيّز مكاني مستفيض. وفيه أفصح لأوّل مرّة -على ما أعتقد- بالبنت الأحمر " المسعدي كتب كتابه " السد " بالفرنسية أوّلا ثمّ أعاد كتابته بالعربية . وفي تقديم لآخر إصداراته قبل رحيله بقليل "تونس وعوامل القلق العربي" يذكّر رائد آخر بأنّ أجيال الاستقلال وما بعده منذ منتصف القرن العشرين إلى نهايته يعرفون من هو الشاذلي القليبي فهو رجل الدولة المرموق والوزير المؤسس لوزارة الشؤون الثقافية ووزير الإعلام والوزير مدير الديوان الرئاسي، ويعرفون قدره ومقداره إقليميا فهو الذي اضطلع طوال ما يزيد عن العقد وبكفاءة عالية بمسؤوليات الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في مرحلة من أصعب مراحلها". عبد العزيز قاسم طلب منه المرحوم أحمد الرمادي صاحب "سلسلة أبعاد" عندما أسند له سنة 2000 - عهدة تأثيث العدد الأوّل منها "أمّة تواجه عصرا جديدا" أن يوجز سيرته الذاتية فاستجاب: " علّمتني الصادقية العربية وثقافتها وألهمتني "الصربون" الاعتزاز بتراث بلادي وأمّتي" وأعطتني الأستاذية فرصة مزيد التعلم، أمّا الإذاعة والإعلام فقد وجدت فيهما متحيّزا إلى الآخرين. وأمّا الشؤون الثقافية " فقد أعطتني وسائل عديدة لخدمة ثقافة تونس وتراثها، وأمّا الأمانة العامة فمكنتني من تجربة فريدة أفهمتني مدى بعد الشقة بين الواقع والمثل". هو ذا الرجل الذي ترجّل منذ قرابة الأربعين يوما ففاضت روحه وانتقلت إلى جوار ربّها راضية مرضيّة بمشيئة الله. يقول البارئ في محكم تنزيله في سورة الفجر متوجّها إلى النفس المطمئنة " فأدخلي في عبادي وادخلي جنتي". ومن سورة النجم يقتطع فقيدنا الآية 39 عندما اختتم الكتاب الذي جمعه والصحافية Geneviève Moll تحت عنوان " الشرق والغرب: السلام العنيف " نشر مؤسسات بن عبد الله: " وأنْ ليسَ للإنسان إلاّ ما سعى ". لقد توّج الأستاذ الشاذلي القليبي حياته مثل كبار المفكرين برحلة تصوّف جال خلالها في فضاء الأنوار الربانية وتعلقت همّته بالبحث في مدوّنة الفكر الإسلامي وانطلق في الإعداد لما كان يسمّيه " الكتاب الأخير" يضمّنه رؤياه في خاتم الأديان السماوية والذي ظلّ دوما يصفه بدين القوام. يقول في أحد الفصول التي أورده في الأثر الذي صدر عن دار الجنوب والمشار إليه آنفا: " القوام هي العبارة القرآنية التي تعكس ما يسمّى في الثقافة الغربية التوازن والاعتدال خلافا لما يخيّل إلى البعض من أنّ هذه المعاني من ابتكار غيرنا فأصل النظام الأخلاقي في الإسلام إنّما هو اجتناب الغلوّ في الأمور الدنيوية والدينية". لقد دعا الدكتور أبو بكر الأخزوري حينما تحمّل وزر الشؤون الدينية في حكومة محمد الغنوشي سي الشاذلي لإلقاء المحاضرة الافتتاحية لمنتدى تونس للإسلام وقد واكبها جمهور المثقفين في بلادنا وقد كانت تحمل عنوانا مقتبسا من سورة الفرقان " والذين أنفقوا ولم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما" الآية 67. لقد تشرّفت بلقائه في بيته خلال السنة الفارطة وبطلب منه لغاية مدّه بنصّ لمسامرة كنت قد ألقيتها على منبر منتدى الفكر التونسيبأريانة حول شخصية محرز بن خلف والمكنى بسلطان المدينة وبرائد التسامح في الديار التونسية، وكانت فرصة لاستعادة بعض اللقاءات التي جمعتنا سويّا خلال الخمسين سنة الأخيرة. ويرجع أوّل لقاء في أواخر سنة 1969 عندما تحمّلت أمانة الاتحاد العام لطلبة تونس وكان هو الداعم الأساسي للعمل الثقافي الذي كان بالنسبة لنا الصنو الودود للعمل النقابي فكانت الفرقة الموسيقية بقيادة الفنان محمد الڨرفي وكان نادي السينما بتنشيط الصديق خميس الخياطي وكان مركز الفن المسرحي بإدارة محمد إدريس. ولم يتأخر مؤسّس وزارة الثقافة في حكومة الحبيب بورقيبة عن الحضور شخصيا إبان مواكبته أعمال هذا المركز، ولقد شرّفنا بالحضور في ساحة التريبونال في وسط المدينة العتيقة لمشاهدة مسرحية " الريش والعروق" وهي من إخراج الصديق عبد الرؤوف الباسطي والذي آلت إليه وزارة الثقافة في أواخر العشرية الأولى من القرن الماضي. كما أنّي سعدت بمقدمه في رحاب المسرح البلدي عند عرض مسرحيّة " حديث الحجارة" للحبيب الشعبوني وفرحات يامون وإخراج علي الراضي. ولقد كنت ألحظ ردّ فعله عند شرح أحد الممثلين فوق الركح لمفهوم المسؤولية حيث قال : "إنّ المسؤول لغة هو من يُسأل ولكن في زماننا انعكس الفعل فأصبح المسؤول هو الذي يَسْأل". فكانت تبدو على وجهه ملامح الهدوء ولربّما الإعجاب لهذا الاستخراج، فتذكرت ما كنت قرأته في " الإتحاف" لابن أبي الضياف عندما روى واقعة الأوبرا في باريس عندما حضر أحمد باي رفقة ملك فرنسا لويس فيليب عرضا مسرحيّا ظهرت خلاله إحدى الممثلات وهي تصيح: " بأي تشريع يتصرّف السلطان في أرواحنا بالقهر ونحن أحرار" فصفّق الملك وقال لها: " أحسنت... أحسنت والتفت إلى السلطان وقال له: يجب على أمثالنا مراعاة الجلب لقلوب الرعية بما تستحسنه". ولقد ذكّر الفقيد في أحد كتبه " الثقافة رهان ثقافي" الصادر عن الدار التونسية للنشر 1978 : " بهذه القناعة التي كان مسكونا بها " خلق الثقافة هو جهد حرّ من طرف المبدعين وما أحدثت الوزارة إلا لتسهّل عليهم رسالتهم لا لتحلّ محلّهم". ولغاية التسهيل فلقد أحاط الوزير المؤسس نفسه بثلة من أبرز مثقفي جيله من أمثال الطاهر قيقة ومصطفى الفارسي والطاهر شريعة والمنصف شرف الدين وعز الدين القرواشي... هذا الجيل الذي قال عنه في أحد حواراته " إنّه الجيل الذي كانت عليه مسؤولية البناء والتشييد" وبعد أن تشبّع في شبابه بتعاليم أعلام الجيل الذي سبقه من أمثال الفاضل بن عاشور وعلي البلهوان ومحمود المسعدي " الذين صقلوا الأذهان وأصّلوا الكيان". لقد توفرت لي الفرصة مرّة ثانية في ثمانينات القرن الماضي بالعمل سويّا مع هذا الرجل اللامع وذلك في نطاق ما سعيت إليه وتمّ أي تكوين نقابة بلديات تونس الشمالية والتي كانت تظمّ أريانة وحلق الوادي وقرطاج وسيدي بوسعيد والمرسى. وكنّا ونحن نتحمّل أمانة تلك المدن الخمس نجتمع دوريّا لتدارس ما ينفع منظورينا في هذا المحيط الممتد من البحر إلى السبخة، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن إذ بتأسيس ولاية أريانة سنة 1983 وضع حدا لهذا التجمّع البلدي بما أننا لم نعد ننتمي لنفس الولاية رغم أنّ قانون البلديات الصادر سنة 1975 لا يمنع ذلك ولكن هي الإجراءات الواجب اتباعها التي استعظمناها، وبعد ذلك وقبله لقد أصبحت مدينتنا - بالرغم عنّا- عاصمة لجهة مستحدثة وهو ما سيصرفها عن سيرها السابق. تلك هي في المحصلة محطات في مسيرة التعارف بيني وبين الأستاذ الشاذلي القليبي رجل الدولة وشيخ مدينة حنبعل و ما أدراك ما حنبعل وأحد " كبار المفكرين العرب". ويطيب لي في خاتمة هذه الاعترافات أن أستعير ما أورده الصديق الأديب الفذّ عبد العزيز قاسم عند حديثه الممتع عن الفقيد " إنّ المودّة التي ربطتني به تذكّرني بقولة Montaigne " صداقة الرجل العظيم هبة من الآلهة".