من أبرز قيم الحداثة في الدين الإسلامي أن كرس الإسلام الحرية والكرامة ضمن حقوق الإنسان الطبيعية بأن لا قيمة لحياة الإنسان بدون تثمين مفاهيم الحرية والكرامة لفائدته, ومن دلالات ذلك أن جعل الإسلام العقل البشري الحر يدرك وجود الله جل وعلا ووحدانيته وهو الشرط الشرعي الأول لإسلام الإنسان وإيمانه بالله ربا وبالإسلام دينا وبسيدنا محمد نبيا ورسولا صلى الله عليه وسلم, كما جاء ذلك في الكتاب والسنة من خلال شهادة " أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ", وتكريسا لحرية وكرامة الإنسان أقر الإسلام نفي الإكراه في الدين حتى يقبل الإنسان على الإسلام عن طواعية ويقين دون إكراه, مصداقا لقول الله تعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ... ) س البقرة 256, ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) س يونس 99, وفي ذلك تنويه لحرية المعتقد التي تضمن حرية الإنسان في اختيار عقيدته عن قناعة ويقين وإيحاء للرسول صلى الله عليه وسلم بعدم إكراه الناس على الإيمان وبالأخذ بأسباب الهداية والإقناع لأن الهداية بيد الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء لحكمة لا يعلمها إلا هو تبارك وتعالى. ومن أوجه الحرية والكرامة في الإسلام ما يتصل بالحرية الشخصية وما تتضمنه من حرمة للذات ومن كرامة على معنى الآية الكريمة ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) س الإسراء 70, إذ ميز الله تعالى الإنسان بالعقل والفكر تكريما له وفضله على سائر المخلوقات وأمن سلامته وطمأنينته في نفسه وعرضه وماله وسخر له كل ما في الكون ورزقه من الطيبات والخيرات التي تؤمن له رغد العيش. ومن أولى الحقوق التي شرعها الله تعالى للإنسان حق العلم والمعرفة كما جاء في أولى آيات القرآن الكريم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة في سورة العلق ( اقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الإنسان من علق, اقرأ وربك الأكرم, الذي علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم, ... ), وفيها الدليل والبرهان على أن العلم والمعرفة من عند الله عز وجل وهو الذي يكفلهما للإنسان بتمكينه من حق العمل على تحصيلهما بدون أي قيد في كل ما فيه مصلحة للمسلمين والمؤمنين دينا ودنيا. وفي السنة المشرفة حث الرسول صلى الله عليه وسلم على طلب العلم والمعرفة: " طلب العلم فريضة على كل مسلم " (ذكره السيوطي), " منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا " (ذكره الطبراني). ومن أوجه الحرية والكرامة التي ضمنها الإسلام للإنسان حرية الرأي أي حرية التفكير والتعبير فحثه على التدبر في القرآن والتفكر في آيات الله للتأمل في خلق الله وتثبيت إيمانه وتناول ظواهر الكون بالبحث والتمعن بعقله لأن كل ما في الكون مسخر لفائدة الإنسان يستخدمه عن طريق العلم والمعرفة للاستفادة والإفادة, ومن أوجه حرية الرأي العمل على إبراز الحق ودحر الباطل بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودرء الظلم ونشر العدل وبإبداء الرأي السديد والنصح في كل ما ينفع المسلمين والمؤمنين ويدفع عنهم المفاسد, وذلك من مقصد الشرع. وغير بعيد عن حرية الرأي والتعبير شرع الإسلام الحرية السياسية للأفراد من خلال المشاركة في إدارة الشأن العام للمجتمع عن طريق المساهمة في مبايعة الحكام ( البيعة ) والمساهمة بالرأي وإبداء المشورة على معنى الآية الكريمة ( ... وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) س آل عمران 159, وفيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم باستشارة أصحابه في الأمور الهامة حتى إذا عزم على أمر توكل على الله تعالى ومضى في تنفيذه وجد أصحابه في نصرته ومعاضدته لأنهم مجتمعون من حوله على ذلك الأمر, فكانت الشورى من سمات تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته في نشر الدعوة الإسلامية وتسيير شؤون الأمة على معنى الآية الكريمة ( ... وأمرهم شورى بينهم ... ) س الشورى 38, وفي حديثه أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنصيحة باعتبارها من سبل الإخلاص في نشر الدعوة وتقديم الرأي والمشورة للحكام ولعامة المسلمين " الدين النصيحة... لله و لكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (رواه البخاري ومسلم). ومن مظاهر الحرية السياسية في البلاد الإسلامية اليوم حق المواطنين في اختيار حكامهم ومن ينوب عنهم في مجالس الشورى والمجالس النيابية صلب أنظمة سياسية ديمقراطية وأخرى بدرجة أقل, وهذه الهيئات لها مهام تشريعية ويرجع إليها الحكام في أمور الحكم الهامة سياسيا ودينيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا, ومن هذا المنظور فلا تناقض بالمطلق بين الإسلام والديمقراطية بعيدا عن التشدد والتطرف وتكريسا لقيم التسامح والاعتدال ولروح الشريعة الإسلامية السمحة كما جاءت في الكتاب والسنة. لقد شرع الإسلام الحرية والكرامة كحق من الحقوق الطبيعية الفطرية للإنسان كما أسلفنا, ولكن هذا لا يعني أن الدين الإسلامي قد أطلق الحرية والكرامة بدون ضوابط ولا قيود لأن الحرية المطلقة هي من قبيل الهوى وتؤول إلى الفوضى التي تلحق الضرر بالمجتمع , فالإسلام ينظر للإنسان على أنه مدني على الفطرة فأقر له الحرية والكرامة ضمن حدود وضوابط من أهمها عدم الإخلال بأمن واستقرار المجتمع وعدم التعدي على حرية الآخرين واعتماد الممارسة السلمية للحرية, ومن ضوابط الحرية في الإسلام وخاصة حرية الرأي والتعبير أن تلتزم أخلاقيات الحوار الهادئ واحترام الآخر فلا تأخذ بمنحى القذف والتجريح, وأن لا تؤول إلى تكفير المسلم أو المؤمن والافتراء عليه, وفي نفس السياق ندرك أن الإسلام لم يقر حرية الفرد على حساب حرية الجماعة ولم يقر الحرية للجماعة على حساب الفرد, بل توخى منهجا وسطيا ليعطي كل طرف هامشا من الحرية في إطار مقاربة متوازنة تضمن المساواة للجميع . والأهم من ذلك كله أن لا تنال حرية الرأي والتعبير من مقدسات الدين الإسلامي ورموزه وخاصة في شخص الذات الإلاهية والذات النبوية بأي إساءة تحت غطاء حرية التعبير أو الإبداع بعنوان الحداثة, ولو اقتصر الأمر على التمييز بين الذات الإلاهية والقرآن من جهة وبين الذات النبوية والسنة من جهة أخرى, لأن الإسلام كتابا وسنة كل لا يتجزأ و لا بد من الأخذ به كله كمنظومة متكاملة, بل وأكثر من ذلك أن جعل الإسلام من المحظور سب الأديان الأخرى ورموزها وأتباعها كما جاء في الآية الكريمة (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ...) س الأنعام 108, وفي ذلك تنزيه للذات الإلاهية وصون لعظمة الله وجلاله, وسد للذرائع الموصلة للمحرمات وللمحظور من الممارسات والأفعال , وبالمقابل فلا يعتمد التشدد والتطرف في الدين للتضييق على الحرية والإبداع تحت غطاء الدين الإسلامي الحنيف السمح والمعتدل بفطرته وبطبعه. وفي صلة بعلاقة الإسلام بالحداثة وما يثيره ذلك من تجاذبات تذهب إلى حد الصراع مع الآخر ممن ينظرون للعلمانية والليبرالية المتوحشة, فلا خيار أمام المسلمين سوى التمسك بوحدتهم الدينية والعمل على تثمين مضامينه الحداثية من خلال الانخراط في كل المسارات الحوارية على أساس الندية مع الطرف الآخر المنكر للحداثة في الإسلام, وذلك دفاعا عن المثل العليا التي جاء بها الإسلام وعن القيم الكونية المشتركة بين الناس جميعا على أساس التكافوء والمساواة والتضامن في إطار عالمية الإسلام. وفي المحصلة لا ريب في أن الدين الإسلامي الحنيف قد أكرم الإنسان المسلم والمؤمن بالحرية والكرامة وأن الفكر الإسلامي التنويري يعتمد الحداثة في كل ما يأخذ بمنحى الإيجابية والعقلانية وبأسباب العلم والمعرفة, ويؤمن بالحوار مع الآخر دون " التغريب" الذي يجر إلى العلمانية, وتلك هي التوجهات السامية للدين الإسلامي الحنيف كما جاءت في الكتاب والسنة. نسأل الله جل وعلا السداد والتوفيق, الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله, سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد رب العالمين.