تثار كثير من الشبهات حول قضية الحرية الدينية وحرية الفكر والمعتقد في الاسلام ويتهم كثيرون الدين الحنيف بانه يعارض حرية المعتقد ويتجاهلها في حين ان الإسلام ينفي أية مشروعية للإكراه في الدين ويشدد على أن الناس جميعاً ليسوا موضوعاً للإكراه على اعتناق الإسلام، وواقع التاريخ يثبت أن دار الإسلام تتسع لغير المسلمين وتوفيهم حقوقهم السياسية والإنسانية بصورة كاملة، مما يعني بجلاء أن الإسلام دينٌ يستوعب مبدأ التنوع في العقائد دون أن يكون لهذا التنوع أي مساس بالحقوق السياسية والاقتصادية والإنسانية لأصحابها. يقول الله تعالى في كتابه الكريم ﴿لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ قَد تّبَينَ الرّشدُ مِنَ الغَىِّ﴾ ( البقرة:256) وتتحدث الاية الكريمة عن نفى الدين الإجباري، وذلك لأن الدين عبارة عن إيمان وعمل والإيمان عبارة عن مجموعة من المعتقدات والاعتقاد من الأمور القلبية التي لا يمكن أن تتم تحت الإكراه والإجبار، لأن الإكراه يمكن أن يتم ويؤثر في الأعمال الظاهرية دون الاعتقاد الباطني، فقوله: لا إكراه في الدين نهي عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرها، وهو نهي مستند على الحقيقة التكوينية التي تقول أن الاكراه لا يمكن أن يتم في الاعتقادات القلبية. والسبب الذي تبينه الآية الكريمة لعدم الاكراه والاجبار في الدين هو قوله تعالى «قد تبين الرشد من الغي» بمعنى أنه لا حاجة للاكراه بعد أن تبين الحق من الباطل فلا موجب لأن يكره أحد أحدا على الدين. فالإسلام جعل قضية الإيمان من عدمه من الأمور المرتبطة بمشيئة الإنسان نفسه واقتناعه الداخلي؛ فقال سبحانه: «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، حتى إن الله جل في علاه بين تلك الحقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن مهمته تبليغ الدعوة فقط، وأنه لا سلطان له على تحويل الناس إلى الإسلام فقال: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»، وقال: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ»، وقال: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ». والإسلام أقر هذا المبدأ عمليًا وترجمه إلى نص مكتوب في أول دستور وضعه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والذي يهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين جميع طوائف وجماعات المدينة، وعلى رأسها المهاجرين والأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم. فهو يعترف لليهود بأنهم يشكلون مع المسلمين أمة واحدة، ويضمن لهم كافة الحقوق مثلما للمسلمين، ويلزمهم بالتصدي معًا لأي عدوان خارجي على المدينة. وبإبرام هذا الدستور –وإقرار جميع الفصائل بما فيه- صارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، والمساواة والعدل. وهو ما حدث أيضًا في فتح مكة اذ لم يجبر النبي أحدًا من المشركين على اعتناق الإسلام، ولم ينكل بأحد منهم، وكان شيمته الصفح عمن آذوه وأرادوا قتله، وهو يقول لهم قولته المشهورة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». ومما يؤكد مفهوم التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم وعدم إكراه أحد على الإسلام، ما جاء في قصة «نصارى نجران»، حين قدم وفد منهم إلى النبي الله عليه وسلم في عام الوفود إلى المدينةالمنورة، وكانوا قد أرادوا مباهلته - أي يخوضُون حوارًا عقائديًا وفكريًا مع النبي - فلما قدموا دخلوا على النبي مسجده بعد صلاة العصر، فحانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم، فاستقبلوا المشرق، فصلوا صلاتهم. وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران شاهد على عظمة وسماحة الاسلام الذي كفل حق العبادة والمواطنة للجميع. ان العلاقة الوطيدة بين الحديث عن حرية التفكير والاعتقاد وارتباطها بمراجعة الفكر العقدي الموروث ليست دعوة لترك الإيمان الراشد الذي يستبين الانسان من خلاله الطريق الذي يريد اتباعه عن معرفة واقتدار ، فحرية المعتقد هي تأكيد على أهمية المسؤولية الفردية التي ينبغي على الإنسان أن يمر من خلالها عندما يتخذ قراراً حاسماً في حياته. فالإنسان نفسه هو من سيتحمل نتائج هذا الاختيار. ولذلك جاءت آيات عديدة تؤكد على الحرية الكاملة للإنسان في اعتناق الإسلام وعدم الإكراه على الإيمان قال تعالى «وَلَو شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرضِ كُلُّهُم جَمِيعًا « (يونس:99 ) . فليست الحرية خطيئة ولا إثماً ينبغي على الإنسان أن يتبرأ منه حتى يكون مؤمناً تقيا بهذا الدين أو ذاك. بل هي امتداد لمشيئة الله التي اقتضت أن يخلق الناس مختلفين .