كل من يعتبر بالأحداث الجسام التي مرت بها الانسانية منذ فجر الحضارة يدرك بالعقل و التجربة بأن التدافع البشري الذي أعلنه الله سبحانه في القران يجري على خطين متوازيين وهما خط السلام و التعاون و التجارة و تبادل المصالح و خط الحروب والصراعات و فرض الهيمنة و قهر الخصم أو ابادته كما وقع في عديد الحالات. و لا يختلف حالنا اليوم كأمة عربية عما كان عليه منذ فجر الرسالة المحمدية حين بدأت حضارة الإسلام بالفتنة الكبرى و مصرع ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربع و حين نجيل البصر حولنا ندرك مأساة اليمن و ليبيا و سوريا وهي شعوب تعاني أكثر من سواها شرور الخيانات و الاستبداد و المطامع الشقيقة و الصديقة في جغرافيتها و مقدراتها و الغاية من بؤر الحروب الأهلية هي تمرير صفقة القرن لإلغاء الشعب الفلسطيني من الوجود على الخريطة و طمس تاريخه و تاريخ العرب! ولنا في الملاحم و الأساطير و عيون الأدب و نتاج العقل رصيد هائل من تلازم هذين الخطين بين السلم و الحرب. و بشكل مستمر فان الجغرافيا و التاريخ يتغيران و تنعرج بهما السبل عبر القرون الى منعطفات غير متوقعة في منظور العقل البشري المحدود لكن الله في كتابه المجيد رسم العلاقة بين الأسباب و المسببات عندما تعرض النص المقدس الى القرون الأولى و ضرب الأمثال بانهيار الدول وتداول القوة بين الأمم و الذي يجري اليوم في فلسطين و سوريا و ليبيا و اليمن و بشكل اخر في العراق و لبنان و ما يتوقع المحللون من تداعياته على ايران و الجزيرة العربية و جمهوريات روسيا المسلمة بسبب تنفيذ المخططات الاسرائيلية بدعم متواطئ من الرئاسة الحالية للولايات المتحدة ومساندة خفية من الاتحاد الأوروبي وهو ما يندرج ضمن هذه الأحداث التي ذكرناها و التي ستحور بشكل جذري معالم الجغرافيا و اتجاهات التاريخ للانخراط في الألفية الثالثة التي مضى منها عشرون عاما ومع الأسف لم يستعد لها العرب و أكبر الاحتمالات أنهم سيفاجئون بأهوالها القادمة وهم في غفلة من الزمن أو في سنة من النوم. ان قارئ التاريخ يعرف كيف تقاسمت الأمبراطوريات الأوروبية ثم الولاياتالمتحدة ميراث الرجل العثماني المريض ثم و في حرب الخامس من يونية 1967ميراث الرجل العربي المريض ثم و بسبب الاستبداد و غياب التفكير في العواقب و من خلال احتلال بغداد يوم التاسع من أبريل 2003 ميراث الرجل المسلم المريض. وهي لعمري سلسلة من الحروب المرسومة منذ مؤتمر بازل لليهود عام 1897 ومعاهدة سايكس بيكو عام 1916 و تقسيم الشرق الأوسط الى دول و ممالك تقرر منذ انشائها أن تظل مضخة للنفط و خلق الثروات في الغرب وضمان توسعه الاقتصادي و الصناعي و الثقافي و التكنولوجي و إقرار مواطئ أقدام للإستعمار الجديد بلا مشقة الاستعمار المباشر بل بالاكتفاء بغزو الروح و العقل و نشر ثقافة الإلحاق و القضاء على ثقافة الإنعتاق. اننا اليوم تجاه عملية تزوير الجغرافيا و تحريف التاريخ بتحويل اهتمام العرب من الخشية المشروعة من العدوان الاسرائيلي الخارج عن القانون الدولي الى الخشية من طهران و أنقرة، و تحويل اتجاه الصراع التاريخي و المعلن بين الحق العربي والباطل الاسرائيلي الى فتنة بين السنة و الشيعة أو بين العرب و لأكراد. و بالفعل نجح الاستعمار الجديد و صنيعته الصهيونية في خلق مواجهة بين بعض السنة و بعض الشيعة في العراق و سوريا و لبنان بمؤامرات اشعال نار الطوائف بالألغام المزروعة و السيارات الملغومة و براميل الموت و اذكاء لهيب الارهاب الأعمى وهو ما قدم التشجيع الضروري لتوسيع رقعة الفتنة الى الشرق الأوسط كله من خلال صفقة العار المسماة صفقة القرن بتقديم العدو الاسرائيلي المحتل على أنه الحليف الطبيعي للمواطن العربي الباحث فقط عن لقمة عيشه و عن مجرد الأمان أو الرحيل بأية طريقة الى دول الغرب. و في قطاع غزة يتم تنفيذ نفس السيناريو باظهار حماس البطلة في صورة الارهابي الذي يفسد مخططات السلام و يعكر صفو الشعب الفلسطيني فصنفها بعض العرب منظمة إرهابية! والغريب أن اسرائيل واصلت الاغتيالات والتقتيل والتشريد حتى بعد الهدنات المتعاقبة و التنسيق الأمني المفروض من الراعي الكبير الذي لم يرع سوى مصالح حليفه الإسرائيلي وبلغ حالنا العربي المهين درجة وضع اليمين الصهيوني اليوم في أولوياته مشروع إلحاق نصف الضفة الغربية بإسرائيل! ولم يثر ذلك حفيظة رعاتها وحماتها في واشنطن وأوروبا ما عدا تنديد خجول من الإتحاد الأوروبي و بابا الفاتيكان! ان صفقة القرن (أو لعنة القرن) يتم تجسيدها على الأرض الفلسطينية لتنفيذ استراتيجية قوى عظمى بعيدة عن المنطقة و لا تعترف بحقوقنا العربية السليبة وهي مخططات شيطانية يجب أن يكون العرب حكومات ومجتمعات مدنية واعين بمخاطرها خاصة بعد أن عودتنا الأمبراطوريات الاستعمارية على مثل هذا الغش التاريخي و الخديعة الحضارية حين تعجز عن تحقيق أهدافها البعيدة بالقوة فتلجأ الى عملية تحويل وجهة العرب نحو أعداء وهميين و فتح أبواب الفتنة أمامهم حتى نؤخر مواعيد الصراع العربي الاسرائيلي الذي هو صراع حق مع باطل و نقدم عليه صراعا بين الشيعة والسنة أو بين "العقلانيين العرب" ضد المقاومين العرب أو بين حماس و فتح أو بين الحكومات و الشعوب في العالم العربي. و نحن أحوج ما نكون اليوم الى ايجاد حل لأكثر من عشرة ملايين لاجئ من العرب ما بين فلسطينيين و عراقيين و سوريين و يمنيين الذين منذ ربع قرن أحيانا يعيشون تحت خيام الأممالمتحدة بينما تتعرض أوطانهم للتقسيم في جو من الصمت الدولي المريب و في مناخ من التأييد الأمريكي الواضح و الصمت الأوروبي المشارك في الجريمة بدون أي أفق لتحرير سجناء الرأي القابعين وراء القضبان المصرية و السورية في مأساة انسانية لهم و لأطفالهم و لأهليهم ليس لها من أمل و لا رجاء. ان اللحظة التاريخية العربية في أقصى درجات الخطر والدقة ويخطأ من يعتقد بأنه في معزل عن مصير عربي مشترك بوعود من القوى العظمى بعد هذه التجارب المريرة التي علينا أن نعتبر بها قبل فوات الأوان.