إنّ إسناد اسم الراحل الشاذلي القليبي ل«مدينة الثقّافة» هذا الصرح الذي اكتمل والحمد لله بعد ما يزيد عن 30 سنة هو اعتراف وتأكيد على ما أقرّتْه الساحة الثقّافيّة منذ زمان وما تأكّد أخيرا من خلال كتابات وحوارات المُثقّفين بعد وفاته حيث كان الإجماع على أنّ الشاذلي قليبي هو المؤسّس للشأن الثقافي التونسي بعد الاستقلال فقد وضع الأسس الهيكليّة والإداريّة التي بها وقع تقريب الثقافة من عامة الشعب أينما كانوا فكان القليبي وراء بعث دور الشعب أين يستطيع الشاب ممارسة هواياته الفنيّة والأدبيّة كما بعث المكتبات العموميّة التي أوصلتْ الكتاب لأقاصي البلاد.كلّ هذا ورغم قلّة الإمكانيات وقد ساند الرئيس المثقّف الحبيب بورقيبة مشروع القليبي الثقافي إذ اقتنع أنّ تعميم التعليم لا يكون ناجحا إن لا يصحبه مجهود لتوفير المادة الثقّافيّة .وقد واكب هذا العمل الثقافي بع المهرجانات لتركيز فكرة الثقافة تثقيف وترفيه فكان القلبي ووراء أهمّ المهرجانات وخاصة مهرجان أيام "قرطاج" السينمائيّة الذي بوّأ تونس مكانة مرموقة بين الدوّل وجعل منها قاطرة السينما الإفريقيّة. كلّ هذه الأعمال الرائدة كان وراءها رجل فِكْر مطّلعا عن أهمّ ثقافات القديمة متشبّعا بثقّافة عصره وكان بقدر شغفه بثقافة أمّته العربيّة التي أحبّها ودافع عنها بقدر ما يصيبه أحيانا بعض الإحباط للوضع المتردّي للأمّة العربيّة على جميع المستويات ولم يقبل نحمّل مسؤوليّة الأمانة العامة للجامعة العربيّة في تلك الظروف الصعبة إلّا أملا منه في تقديم الخدمات الضروريّة لإنقاذ هذه الأمّة العريقة لكن بعد المجهود الجبّار الذي قام به كتب بخطّ يده :"أمّا الأمانة العامة مكّنتني من تجربة فريدة أفهمتني مدى بعد الشقّة بين الواقع والأمل"أي بعد الإطّلاع على واقع الأمّة العربيّة خاب ما كان يحدوه من أمل في إصلاحها ومن منطلق هذه الحسرة سأقف عند المواقف الفكريّ للشاذلي القليبي في علاقة بالأمّة العربيّة والشروط التي يراها للنهوض بهذه الأمّة. لكن سوف لن يسمح المقام للوقوف عند كلّ ما حدّده الشاذلي القليبي لتستعيد هذه الأمّة مجدها لذلك سأكتفي بالوقوف على المحور الثقّافي الذي لا يرى للعَرَبِ مستقبلا بدونه وكانت البداية بقيمة المعرفة وقيمة الثقافة في حياة البشر بصفة عامة ثمّ عرّج على جملة من القِيَم التي لا تستقيم بدونها الحضارة مثل الصدق وإقامة العدل ونبذ اليأس والأنفة من الذلّ والتَوْقِ إلى العِزّ وكلّ هذه المعاني لا بدّ أن نتجاوزها لما يكسبها نُبْلها وشرفها لما يسمو به البشر والذي بدونه يكونون كالأنعام يأكلون ويتمتّعون بل هم أضلّ سبيل لأنّهم لا يفقهون مآلهم ولا يتّخذون زادا لمعادهم .أمّا ما تصبو إليه شعوبنا العربّة من تنميّة شاملة فإنّ أداتها الأساسيّة عند القليبي هي المعرفة والثقافة التي من الضروري أن تقترن برقي حضاري أصيل وبوعيّ روحي و نظام أخلاقي يتوخّى لوسط ويتجنّب الشطط وتحقيق هذه المعاني والقيم هو الرهان التاريخي الذي على شعوبنا أن تكسبه ثمّ بعد تحقيق هذه الأسس تأتي التنميّة الشاملة التي هي ضروريّة لشعوب هذا العصر والتي لم تعرفها الشعوب إلّا بعد الحرب العالميّة الثانيّة إذ كانت الشعوب المستعمرة تُنْعت من طرف المستعمِرين بالمتأخّرة وينسبونها للانحطاط ويَدَّعون أنّهم جاؤوا من أجل تنميتها ورفع الجهل عنها وبداية من سنة 1945 صارت هذه الدول تنعت بالعالم الثالث وانطلقتْ كلمة التنميّة لكن الإنماء عندنا في العلم العربي كان مستوردا من دول أجنبيّة غير نابعة من مجهودنا الذاتي وهي نماذج بعيدة عن تقاليد شعوبنا ومضامين حضارتنا لذلك مُنِيَتْ التنميّة عندنا بالمصاعب والمصائب لأنّ القضيّة ثقّافيّة بالأساس وانعكاس التنميّة المستوردة كان وخيما على مجتمعاتنا إذ هي تمسّ بالهويّة الوطنيّة ومن القيم التي منها ينطلق المجتمع. لذلك دعا القليب كلّ الشعوب التي لها حضارة أصيلة أن تستنبط أنماطا إنمائيّة متلائمة مع تراثها وتقاليد مجتمعاتها وهو ما وفّقتْ له اليابان إذ استطاعتْ الأخذ بناصيّة العلم والتكنولوجيا وقد كان العرب في صدر الإسلام قد وفّقوا في ما اهتدتْ إليه اليابان اليوم إذ أخذوا من الحضارات القديمة ما يلائم ثقّافتهم وأوضاعهم وصهروها كلّها ضِمْن تقاليدهم وعاداتهم وهنا كان دور الاجتهاد أساسي .وقد اعتبر القليب أنّ هذه القضيّة الثقافيّة الأولى التي من الضروري أن تتحصّن بها شعوبنا العربيّة عند دخول مجال التنميّة المستوردة .أمّا القضيّة الثقافيّة الثانيّة فتتعلّق بكيفيّة إعداد أجيالنا الصاعدة أو بعبارة أدقّ ما هي نوعيّة الثقّافة التي نلقّنهم إياها ليكونوا مواطنين صالحين في مجتمعهم قادرين على النهوض به؟ سأتجاوز كثيرا من المحاور التي لا يسمح بذكرها ضِيقُ المكان وقد أعودُ إليها في المستقبل لأقف عند الإسلام الذي يعتبره القليبي مساعد على النموّ لكن أي إسلام يكون قادرا على القيام بهذه المهمّة ؟ يجيب القليبي:" إنّ الرهانات العظمى التي تدعى إليها أمّتنا ما يتعلّق بالإسلام وحسن الاجتهاد في الملائمة بين قيمه ونواميسه وبين أوضاع المجتمع لأنّ ما يهمُّ الإسلام هو إعلاء شأن أمّتنا بالدرجة الأولى لأنّ أمّتنا تستشعِر بذلك عزّ الحقّ وتبعد عن أبنائها ذلّ اليأس وما في الباطل من الذلّة وما في الجهل من القلّة ولأنّها بالسعيّ لما هو أفضل وبالاجتهاد في أمور الدنيا نكون بحقّ خير أمّة أخرجتْ للناس . وللحديث بقيّة...