بقطع النظر عن الأخطاء الاتصالية التي ارتكبت عند تشكيل الحكومة الجديدة من حيث توقيت الإعلان عنها والذي جاء في ساعة متأخرة من الليل ما يدل على الولادة العسيرة التي رافقت تشكيلها والصعوبات التي اعترضت المشيشي في تكوينها و في اللبس الذي حصل حول إسم وزير التجهيز والإسكان حيث حصل لغط بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة بخصوص تحديد إسم المقترح وإذا تجاوزنا الانحراف الذي حصل في التمشي المعهود والمتعارف عليه في الأنظمة الديمقراطية في تأثيث حياة سياسية متطورة تقوم على أرقى ما وصل إليه العقل البشري في زمانه الحاضر لتنظيم الحياة السياسية داخل المجتمعات البشرية من خلال فكرة حكم الأحزاب التي يمنحها الشعب ثقته فالديمقراطية تعني أن تحكم الأحزاب السياسية انطلاقا من برنامج يعلنون عنه وتصورات مجتمعية وحلول اقتصادية وهي تعني كذلك التداول السلمي على السلطة بعيدا عن حكم العسكر أو حكم الانقلابيين عبر آلية الانتخاب واحترام إرادة الناخبين ومعاقبة الأحزاب الحاكمة حينما تفشل في ممارسة الحكم من خلال صناديق الاقتراع وخلاف ذلك هو التشريع للفوضى وفتح طريق العودة إلى نظرية حكم الفرد الواحد والسلطة الواحدة وحكم الأنظمة الملوكية والسلط الاستبدادية التي لا حكم فيها إلا لحكم الرئيس أو الملك أو الزعيم. ما يحصل اليوم مع الإعلان عن أسماء الفريق الحكومي الجديد لحكومة المشيشي أن القناعة حاصلة من أن هذه الحكومة ليست حكومة الشخصية المكلفة بتشكيل الحكومة وإنما هي في الحقيقة حكومة الرئيس الثانية بعد أن فشلت حكومته الأولى التي رشح لها الشخصية الأقدر والأكفأ لتنتهي باستقالته نتيجة ثبوت وجود شبهة تضارب مصالح جدية لرئيس الحكومة إلياس الفخفاخ فالكثير من الأسماء في حكومة المشيشي كان وراءها الرئيس قيس سعيد بل أن هناك معلومات مؤكدة مفادها أن الحكومة كانت جاهزة وحاضرة في درج مكتب الرئيس منذ أن اندلعت أزمة تضارب المصالح التي عصفت بحكومة الفخفاخ وأن كل ما قام به المشيشي من مشاورات واتصالات و لقاءات ما هو إلا إجراء شكلي يقتضيه نص الدستور لا غير وهو تمش اختاره رئيس الدولة وأوكل به المشيشي الشخصية التي عينها لتكون على رأس حكومته الثانية وهو خيار سوف يؤدي إلى منعرج خطير مآله مزيد تعميق الأزمة السياسية الخانقة التي تعرفها البلاد بعد أن تفشل هذه الحكومة في الصمود أمام التحديات الكبيرة التي تنتظرها والتي تحتاج فيها إلى حزام سياسي قوي ومتين هو اليوم مفقود بعد أن تخلى المشيشي عن خيار الاعتماد على الأحزاب في تشكيل الحكومة وانصاع إلى تصور الرئيس في تشكيل حكومة من خارج الاحزاب السياسية وبشخصيات مستقلة تماما عنها وباستجلاب أسماء من الإدارة التونسية ومن كفاءات تقنيه غير متحزبة وهي مسألة صعب تحققها لعدم وجود شخصية اليوم ليس لها مواقف ورؤى مما يحدث حتى وأن لم يعرف عنها انتماء سياسي واضح. كل الخشية اليوم في أن تفشل حكومة الرئيس الثانية وحينها نكون أمام وضعية قد يساءل فيها رئيس الدولة عن خياراته واختياراته الفاشلة ويكون تحت طائلة محاسبة الدستور له الذي فتح إمكانية سحب الثقة منه .. الخشية اليوم فيما قد يحصل من منعطفات في المسار الديمقراطي بعد أن تم التنكر لقواعد اللعبة الديمقراطية التي رضي بها الجميع وقبلوا بنتائجها ومآلاتها وبعد أن حصل ترذيل الأحزاب السياسية و التنكر لدورها وعدم الإعتراف بأهميتها في الحياة السياسية . فبالرغم من كل الأخطاء التي ارتكبتها منظومة الأحزاب التي تشكلت بعد الثورة فإن ذلك لا يعني أن نؤسس مشهدا سياسيا من دون أحزاب سياسية ولا برلمان ولا مجتمع مدني ولا نقابات ولا هيئات دستورية وهي كلها من مقومات الحياة الديمقراطية ولا يعني كذلك ان نقيم حكومة من خارج السلطة التشريعية وبتهميش الأحزاب بدعوى التطاحن والتصارع بين من مكوناتها فما كان منتظرا ومطلوبا من رئيس الدولة أن يكون حكما لا لاعبا وأن يكون مجمعا لا مفرقا و خصما للأحزاب السياسية . فالنظام السياسي الذي أقره الدستور و الذي هو مطالب باحترامه قد جعله خارج الصراعات و فوق الأحزاب وأن يكون على نفس المسافة من الجميع وأن يكون عنصر تهدئة لا عنصر توتر وأن يكون تدخله لإزالة الخلافات ولا لأشغال نارها والجهة التي تقلل من الخسائر والضغائن لا أن يكون الجهة التي توسع من دائرة الأزمة وتعمق الخلافات والأخطاء. اليوم هناك حديث عن تعرض المسار الديمقراطي الذي سارت فيه تونس بعد الثورة إلى تراجع من وراء محاولة حدوث انقلاب ناعم عن الديمقراطية وعلى أصوات الناخبين وإرادة الشعب من وراء تجاهل الأحزاب وتجاهل نتائج الانتخابات وتجاهل للسلطة التشريعية وإحلال محل كل ذلك أفكار مختلفة تشرع للسلطة الواجدة والرأي الواحد والفهم الواحد والقرار الواحد والتأويل الواحد والتخلي عن النقاش والحوار والمشاركة واحترام الرأي الآخر . المشكل اليوم بعد ان اتضح أننا على مشارف تشكيل حكومة الرئيس الثانية وبعد أن بات رئيس الدولة يتدخل في مهام رئيس الحكومة وخرج عن نطاق صلاحياته المحددة بالدستور وبعد أن قرر أن لا يكون حكما و فوق الجميع وإنما لا عبا في ملعب الأحزاب فإن الخوف في أن يتعرض أثناء اللعب إلى إصابات طبق قانون اللعبة قد تكون بليغة ، حادة ومؤثرة يجعل من الصعب عليه مغادرة الميدان من دون خسائر فادحة قد لا يتحملها لأن اللعب في الميدان المخصص للأحزاب كلفته باهظة أكثر مما لو بقي رئيسا وحكما ولم يتحول إلى لاعب في ملعب الأحزاب.