لقد شيّعنا أمس إلى مثواه الأخير بمقبرة سيدي الجبالي بأريانة جثمان أحد أبناء القرية محمد صالح بركات شهر "حمّادي الحجّام" تغمّده الله برحمته وغفرانه. ولقد كنت أفردته بفصل في ركن "شذرات" بالصحيفة الورقية " الصريح" بتاريخ 9 أفريل 2007. ومن عجيب الصدف أنّي التقيت إثر ذلك الصديق صالح الحاجّة مدير الجريدة فتمشينا قليلا في شارع الطيب المهيري بأريانة ثمّ انحنينا نحو شارع 2 مارس حيث يوجد دكّان المرحوم فقدّمت لسي صالح هذا الحلاّق الظريف. الحلاق شخصية محورية في الحومة. فهو أوّلا وبالذات ذلك الذي نأتمنه على رؤوسنا التي نطأطئها أمامه فيفعل بالمقص والموسى ما تخوّل له صناعته وهو يحرّكها يمنة وشمالا بالصوت والإشارة ونحن له طائعون. وهو ثانيا وليس بالعهد من قدم صاحب اختصاصات شبه طبية لم يتحصّل من أجلها على شهائد وإنّما اكتسبها بالعرف الجاري كختان الأطفال وامتصاص الدم- وبالخصوص الفاسد منه – بواسطة الأواني الزجاجية التي يتقن وضعها في قفا الرأس. وهو أخيرا وليس آخرا ممثل غير شرعي لوكالة أنباء محليّة بالأساس فلديه الخبر -اليقين- وعنده المعلومة - الدامغة. ودكانه منشر لأحوال العباد وشؤون البلاد فهو مولد لا ينقطع عن صنع الكلام، فالكلام والحلاقة صنوان مصداقا للمثل العامي " إذا تحب تعلّم ولدك الكلام، حطّو عند حجّام". وكلنا يتذكّر أنه تعرّف في صباه عند الدراسة على شخصية الحلاق الثرثار وما فعله بزبونه وهو يسخط على السياسة واليابان والروس أجمعين. ولكن حلاقنا حمادي يختلف تماما عن هذا النمط. فهو ليس بالمتكلم ولا بالثرثار. فلا داعي إلى إرسال أي طفل لديه لتعلّم الحلاقة والحديث اللهمّ إلا إذا أردنا أن يطّلع على الكنالو في قفصه والكلب الأليف في ركنه وأواني القرنفل السواكي وهي إمّا متدلية في النوافذ أو مصفوفة فوق العتبات. وهو أميل ما يكون إلى الاستماع إلى حديث من يقبل عليه من زوّار يحدّد لهم المواعيد فيجتمعون عنده، ويكون من بينهم القاضي والخبير في القانون وقائد الطائرة والمصرفي ورئيس البلدية الأسبق وكلّهم من أبناء القرية فيستعيدون في كلّ مرّة ذكريات الماضي ويكون هو منصتا لهم يبدو على ملامحه التأثّر باعتباره معاصرا لهم وأحد روّاد القرية في مجال الحلاقة وفي الحياة العامّة. لقد كان والده يكنّى ب " بش بش" وفي ذلك أكثر من علامة على الحميمية التي كانت تطبع المجتمع المحلي في خمسينيات القرن الماضي. وما أكثر الكناية في قريتنا خذ مثلا لذلك " بلّها - تتّو - فليفل - فرفت - الفكرون - منّو منو - وللّو، وهذه الأخيرة هي كنية حلاقنا حمّادي وقد أصبحت علامة تجارية لدكانه.