الزمان يوم السابع من نوفمبر من سنة 1969 المكان: مكتب وزير التربية القومية مثلما كانت تسمّى وقتئذ. كنت يومذاك على موعد مع الأخ أحمد بن صالح مثلما كنّا ندعوه في حزبنا الدستوري للتباحث كالعادة في شؤون الطلبة التي ولّيت أمانتهم في الاتحاد العام منذ شهر أوت المنصرم. ولم أكن أدري أنّ ذلك اللقاء هو الأخير، ولست أدري اليوم أنّ الوزير كان يعلم أنّه سيعزل في ذلك اليوم بعدما سحبت منه كلّ الوزارات ..............الاقتصاد والمالية والتخطيط والفلاحة والصناعة والتجارة منذ الثامن من سبتمبر المنصرم. لعلّه بقي ينتظر stoïquement -مثلما يقول الإفرنج - مصيره المحتوم، فمكث أيّاما معدودة في شارع باب البنات قبل أن يتحوّل إلى الشارع الذي يليه 9 أفريل حيث سيقضي ثلاث سنوات وهو في أوج العطاء 44 عاما في السجن المدني قبل أن يتمكّن من فكّ قيوده ويضرب في أرض الله الواسعة. لقد تعدّدت لقاءاتي بالرجل الفذّ الذي ودّعناه بالأمس وإني لأتذكّر أولاها حينما اصطحبنا الصديق محجوب الزمالي السلف الصالح وعند تقديمه لأعضاء المكتب التنفيذي للمنظمة للشخصيات السياسية في حكومة السيد الباهي الأدغم توقّف سي أحمد عند سماعه لاسمي ولقبي فقال: " والله هذا أمر طريف فكيف يكون عيسى بكّوش وقد كلّم الناس وهو في المهد صبيّا ". ولعلّ هاته الدعابة كانت إشارة إلى نسج علاقة قرب بهذا الإنسان الذي انبهر به طيف هائل من جيلي جيل الاشتراكيين الدستوريين. ثمّ تتالت اللقاءات بالخصوص عند انعقاد لجنة الدراسات الاشتراكية كلّ أسبوع في دار الثقافة ابن خلدون حيث تدارس صفوة من المناضلين أمّهات المسائل المحدّدة لمستقبل الأمّة. ثمّ عند اقتراب المؤتمر السابع عشر لاتحادنا أخذ الأخ أحمد بن صالح على عاتقه أن يفكّ حلقة تزكية الأمين العام من طرف إدارة الحزب، فطلب من هو آنذاك أي الكاتب العام المساعد للحزب من المنعّم محمد الصيّاح مدير الحزب أن يترك المجال للمترشحين وكان عددهم ستّة وليتنافس المتنافسون، فتقبّل هذا الأمر على مضض ولكن سارت الأحوال في ذلك الاتجاه الأسلم بالنسبة للديمقراطيين داخل الحزب كما داخل الاتحاد. وبفضل ذلك وضع أشخاص على رأس المنظمة وحملت الأمانة لمدّة تقارب العامين (69-71) إذ أنني استقلت يوم 13 أفريل أي قبيل خمسة أشهر من التئام مؤتمر قربة الشهير وذلك للكمّ الهائل من الضغوطات المسلّطة علينا منذ تاريخ اجتماع مجلس الجمهورية يوم 8 سبتمبر 1969 والذي أعلن فيه عن وأد التجربة الاشتراكية، فلقد طلب منّا أن نبارك هذا التحوّل ولكننا أبينا وعرضنا المسألة على الهيئة الإدارية التي اعتبرت أنّ أحمد بن صالح هو كبش الفداء. ومنذ ذلك التاريخ وضعنا مثلما تقول العجائز في "الحنديرة " وطبعا لم نستسلم وظللنا ندافع عن هذا الموقف ناهيك أنّ المنعّم الباهي الأدغم طلب منّي أن أستجلب أعضاء الهيئة الإدارية إلى مقر الحكومة في القصبة لكي يخفّف من الاحتقان وعدم التشدّد في المواقف لأنّ ذلك من شأنه أن يؤلّب الرئيس بورقيبة على أحمد بن صالح المتهم بالخيانة العظمى فيأذن بأقسى الأحكام. ولقد كان بورقيبة مهووسا بهذا التماهي الواهم بين بن صالح واتحاد الطلبة إذ أنّه صرّح في خطاب أمامنا في قصر قرطاج يوم 29 أوت 1970 بما يلي: " لقد أقحم أحمد بن صالح أتباعه في صفوف هذه المنظمة أثناء المؤتمر الذي عقدته بالمهدية". وكثيرا ما ذكّرت سي أحمد عند عودته من المنفى مداعبا بأنني منسوب إليه قسرا بحجة بورقيبة "دامغة" ولقائل أن يتنبأ بالمتانة....العلاقة بين الرجلين بورقيبة وبن صالح والجواب حسب تقديري هو ما خطّه رجل أدرك الاثنين وهو الأستاذ الشاذلي القليبي الذي ....للكاتب الصديق سالم المنصوري " أحمد بن صالح وزمانه-منشورات نيرفانا: " كان كلا الرجلين المتميزين كل على طريقته يقيم مع الآخر علاقة ملتبسة تتّسم بعدم ارتياح مشترك واستهواء متبادل يكاد يلامس العداء". في ذلك اللقاء يوم 7 نوفمبر 1969 طفطف قلب سيد أحمد وانطلق لسانه: " لقد بدأت حياتي أستاذا وكنت كثيرا ما أنبهر بتلامذتي ولا أرى أي حرج في تفوّقهم عليّ ولكن هنالك أناس يسوؤهم نجاح الآخرين" لقد التقيت سي أحمد للمرّة الأخيرة في بهو المكتبة الوطنية بعدما اختارت الندوة التي انتظمت بمناسبة صدور كتاب الصديق المؤرّخ نور الدين الدقي حول الزعيم المنجي سليم، وتجاذبنا أطراف الحديث وكنا نشرف من فوق الربوة على المدرسة الصادقية التي قضّى فيها دراسته الثانوية واستحضرنا بعض الأسماء ومن ضمنها المنعّم الشيخ الجليل الشاذلي النيفر فقال: " لقد كان أستاذي ثمّ أصبح صديق أدين له بما أفتى به لفائدة منظومة التنظيم العائلي إبّان تحمّلي لوزارة الصحّة". وممّا يبقى في الذاكرة هو أنّ هذا الوزير الذي لم يكن له نظير في تونس وفي غير تونس ركب متوجّها إلى منزله في رادس في سيارة أجرة. واليوم وقد غادرنا إلى عالم أفضل فإنّ بصماته باقية ما بقي الإنسان، فعلاوة على الأقطاب الضبابية المنتشرة في ربوع البلاد فإنّ ما أعتزّ به كابن لقريتي الوديعة أريانة هو مرفقان متميّزان: مستشفى عبد الرحمان مامي الذي أسّسه سنة 1958 بمعيّة المنعّم إبراهيم الغربي والحي الجامعي 2 مارس الذي حان الوقت لتسميته باسم هذا الوزير المقدام الذي توجّهت إليه في شهر أكتوبر 1969 بالسؤال حول توفّر المبيتات الجامعية فقال لي: هل لديك اقتراح؟ فقلت هناك عمارات بقرب مسكني في أريانة على وشك الإتمام من طرف "السنيت"، فعقّب " عدّها من الآن حيّا جامعيّا". طيّب الله ثراك يا ابن تونس البار ولتهنأ حيث ما كنت فلن ينساك وطنك الذي أحبّك منذ نعومة أظفارك ونذرت نفسك بخدمته فاجتهدت وعملت والله لا يضيع أجر العاملين.