في هذه الدقائق التي اكتب وأنا واقفٌ خاشعٌ حزينٌ في نفس المكان، منذ تمام الخمسين سنة، الذي فيه شاهدتُ لأول مرة دموعَ أبي،ذلك الرجل المتعلّم الذي كان من اعيان مدينتنا الصغيرة.كان وقورًا ديّنًا تقيًّا ورعًا!.. كان ذلك حين عدتُ من المدرسةالإبتدائيهْ، فصدمتني دموع ابي وأثّرتْ فيّ.. دموعٌ في منتهى الصدق كانت تنزل من عينية بغزارة وصمتٍ ، وهو محتضنٌ الراديو الذي إعتاد فتحه على اذاعة -صوت العرب- ...من القاهرة.. ما زلتُ اذكر ان ابي في تلك السنين التي لم تنتشر فيها التلفزة إلا قليلا(وكان ابي لا يستسيغها رغم اقتداره المالي عليها) كان ديدنُه وشغلُه الشاغل هو البحث عن افضل انواع الراديو ليتسنى له سماع ما عسى ان يُطمئِنَ من اخبار حرب الاستنزاف التي كان عبد الناصر يقاتل فيها ببسالة رغم ما اصابه من جُرحٍ بالغٍ..... ورغم انني لم أكن افهم الاخبار والكلمات (من صنف بور فؤادّ..بور سعيد..القناة.. السويس..الاسماعلية..الضفة..طائرات الفانطوم..الخ) ،لكنني كنت أدرك خاصة معاني الأناشيد الوطنية، التي مازلت احفظ منها الكثير، كانت تبعث الحماس و الأمل والثقة في النصر الذي وعد به الله المؤمنين المقاتلين الصابرين.. لقد أنشأني ابي على اعتبار امريكا عدوة ("ضدنا"...هكذا كنا نقول!)..أما روسيا فهي صديقة("معانا"..هكذا كنا نقول!..رغم انها ملحدة ،وأبي شديد التديّن كالمتصوّف!!.. وهذا في الحقيقة زادني حين كبرتُ له احتراما واعتزازا به، لأنه لم يكن يأبه بضلالات الإخوانيين، ولم يأبه حتى باعدام السيد قطب الذي سبق النكسة بسنة ) جمال عبد الناصر لم نكن نعرف صورته حينها تقريبا.فحتى الصحف التي كنتُ اشتريها لأبي- محمد الصُّغيّر بن محمد بن حميدة-كنتُ لا افتحها اجلالًا له!.. صورة عبد الناصر رسمناها في خيالنا،فكانت بمنزلة قريبة جدا من الصحابة!.. في ذلك اليوم،الذي كان ايضا يوم خميس كما اليوم، شاهدتُ ابي يبكي يوم تشييع جثمان جمال لدفنه!!...ولقد كانت اصوات الجماهير المصرية المنتحبة تصلنا عبر الاثير بوضوح...كان ذلك تقريبا بعد 75 ساعة من توديعه بالمطار لأمير الكويت -صبّاح السالم الصبّاح- بعد القمة العربية ومعالجة تداعيات احداث ايلول الأسود،تلك الفتنة التي انهكت عبد الناصر وعجّلت بوفاته... رحم الله عبد الناصر المجاهد العربي والافريقي والانساني ورحم الله نزار قبّاني الذي كتب في ذلك اليوم الذي هزّ كل العالم وخاصة العرب : قَتَلناكَ !....... قتلناكَ ليس جديدا علينا اغتيالُ الصحابة والأنبياءْ! فكم من رسولٍ قَتلنا وكم من امامٍ ذبحناه وهو يصلّي صلاة العِشاء فتاريخُنا كله محنهْ وايامُنا كُلها كربلاء! نزلتَ علينا كتابًا جميلا لكنّنا لا نجيد القراءة... وسافرتَ فينا لأرض البراءة، لكننا ما قبلنا الرحيلْ.. تركناك في شمس سينا وحدكْ... ونحن هنا نجلسُ القرفصاءْ نبيعُ الشعاراتِ للأغبياءْ ونحشو الجماهيرَ تبنًّا وقشًّا ونتركُهم يعلكون الهواءْ... قتلناك يا جبَل الكبرياءْ وآخرَ سيفٍ من القادسيّهْ قتلناك بكلتا يديْنا وقلنا المنيّهْ! لمذا قبلتَ المجيء إلينا؟ فمثلك كان كثيرًا علينا!.. فَمِثْلُكَ كَانَ كَثِيرًا عَلَيْنَا..!!..