جريمة بشعة حصلت يوم الجمعة 16 أكتوبر الجاري هزت كامل فرنسا ذهب ضحيتها مدرس فرنسي يدعى " صامويل باتي " يدرس في مادة التاريخ والجغرافيا لتلاميذ الإعدادية بعد أن قدم درسا في حرية التعبير والتعايش السلمي مستعملا عرض صور مسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم كانت صحيفة شارلي إيبدو قد نشرتها سنة 2012 وتسببت حينها في هجوم عنيف على مقرها من قبل عناصر متطرفة أودى بحياة 12 شخصا كان من بينهم رسامي كاريكاتير معروفين وقد كان دافع من قام بالهجوم حسب التحقيقات هو الانتصار إلى الدين الإسلامي الذي يتعرض حسب ظنهم إلى إعتداء كبير وتشويه من خلال الإساءة إلى شخص الرسول وتقديمه في صور كاريكاتورية مهينة لا تليق بهذه الشخصية الدينية الاعتبارية في حياة المسلمين و التي تلقى التقدير والاحترام الكبيرين في العالم الإسلامي وفي قلوب اتباعه. وقد تزامن هذا الاعتداء الأخير على هذا المدرس بعد ذبحه في الطريق العام من طرف طالب مسلم شيشاني من أصول روسية كان قد قدم منذ سنوات إلى فرنسا لاجئا مع أسرته المسلمة مع بداية محاكمة من تسبب في الهجوم على مقر جريدة شارلي إيبدو ومع الخطاب المرجعي الذي توجه به منذ أيام قليلة الرئيس " امانويل ماكرون " إلى الشعب الفرنسي يشرح فيه مشروع " قانون الانعزال " الذي أعده وزير الداخلية الفرنسي ويعتزم تقديمه إلى مجلس نواب الشعب للمصادقة عليه في محاولة من الدولة الفرنسية لمحاصرة ما بات يعرف في فرنسا بظاهرة الإسلام العنيف أو الاسلام الراديكالي ومعالجة ظاهرة التدين العنيف الذي بات يعرفه شباب الجيل الثالث والرابع من الجالية المسلمة التي تنعزل اليوم في تجمعات سكنية منفصلة عن المجتمع الفرنسي الأصلي وترفض الاندماج فيه في مظهر يصور العداء الذي تكنه هذه الجالية المسلمة للدولة ولقوانينها وفي محاولة لفك الارتباط مع قيم الجمهورية وثقافة العلمانية التي تنظم حياة الأفراد وتحكم المجتمع الفرنسي بعد أن بدأ ينمو شعور قوي بأن الدولة الفرنسية لا تفعل شيئا للأقليات المسلمة التي تعيش أوضاعا متردية نتيجة سياسة الاقصاء والتمييز العنصري والتهميش الذي يمارس ضدها بما يجعل من أفرادها مواطنين فرنسيين من الدرجة الثانية. ما حصل هذه المرة مع الاعتداء المدان و الذي يرفضه المسلم قبل غيره و ذهب ضحيته مدرس فرنسي جراء تنامي مظاهر التعصب الديني والذي يعكس أزمة حادة تعيشها الدولة الفرنسية في قيمها و في علاقتها بالدين الإسلامي وفي علاقتها بالأقليات المسلمة التي تشعر أن الجمهورية الفرنسية تزيد من اغترابها وعزلتها ، أنه رغم بشاعة العمل الاجرامي الذي خلف خروج مظاهرات كبيرة غاضبة عرفتها أغلب مدن فرنسا منددة بما بات يعرف بتنامي ظاهرة التطرف الاسلامي وظاهرة التخلي عن قيم الجمهورية الفرنسية المبنية على فكرة التسامح و الحرية والإخاء إلا أن هذه الجريمة قد فتحت نقاشا كبيرا لعل فرنسا تعرفه لأول مرة وهو نقاش فكري يحاول أن ينظر لما حصل من زاوية أخرى غير استراتيجية التخويف من الاسلام واتهام المسلمين بالتطرف ويحاول أن يفهم لماذا وكيف تعرف فرنسا موجة من الاعتداءات باسم الدين ؟ ويحاول أن يسأل ألسنا نحن الفرنسيين من يتحمل جانيا من المأساة ؟ لقد طرحت حادثة ذبح هذا المدرس سؤال المدرسة الفرنسية اللائكية وفرض البحث عن إجابة لسؤال ماذا يحصل في المنظومة التربوية التي لم تقدر أن تضمن احترم قيم العلمانية وتلتزم بقانون اللائكية لسنة 1905 ؟ حيث تساءل بعض الفرنسيين ألسنا نحن المسؤولون فيما حصل ؟ ألم نكون نحن المخطئون حتى وصل بنا الحال إلى ما وصل إليه الآن حينما تخلينا عن قيم العلمانية في مدارسنا و تركنا جانبا قيم الجمهورية في الدرس المدرسي ؟ وفي علاقة بما حصل لهذا المدرس فقد طرح السؤال حول مدى إلتزام المعلمين والأساتذة بالإجراءات البيداغوجية المعتمدة في المدرسة التي تفرض أن لا تدرس المدرسة الفرنسية الايمان والاعتقاد الديني وأن لا تتعرض لدين الآخرين على اعتبار وأن المدرسة كما قال الرئيس ماكرون هي فضاء وإطار لتلقين مبادئ الجمهورية وليس من مهامها تدريس الدين لأن دورها حسب قوله يكمن أساسا في تكوين مواطنين لا مؤمنين فالمدرسة مجالها مختلف عن مجال الكنيسة التي تختص بتعليم الناس تعاليم الدين وهذا يعني أن المدرسة الفرنسية كما تأسست على قيم الجمهورية وقانون العلمانية لا تهتم بالروحانيات التي تبقى شأنا خاصا يهم الشخص وحده في حين أن تدريس اللائكية هو مطلب المجتمع ولعل خطأ المدرس الضحية في كونه لم يلتزم بالفكرة اللائكية وأقحم الدين في درس في مادة التاريخ من المفروض أن لا يكون للإيمان مكان فيها . سؤال محرج آخر طرح بمناسبة هذه الحادثة التي وصفت بكونها صورة من صور التعصب الديني الذي بات يجتاح فرنسا في السنوات الأخيرة يلامس هو الآخر المسألة البيداغوجية التي تخلت عنها المدرسة الفرنسية العلمانية وهي تقديم درس في تعليم قيم الجمهورية المؤسسة على فكرة الأخوة والحرية والمساواة حيث يفترض أن تتجنب المدرسة الحديث في الشأن الديني ولكن إذا ما قرر مدرس أو استاذ التحدث في الدين فإن حديثه وجب أن يكون في كنف الاحترام ومن دون التعرض إلى مشاعر المتدينين وخال من احتقار شعائرهم ومن دون تقديم درس يفهم منه سلوك عنصري أو ازدراء بمعتقد الأقليات وفي علاقة بالمدرس الضحية فإن البعض يوجه له ارتكاب خطأ بيداغوجي حينما أراد أن يتعرض إلى قضية دينية من خلال استعمال رسوم كاريكاتورية مسيئة لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم وقرر الحديث في موضوع حرية الرأي والتعبير من مدخل ازدراء الأديان فوقع في محظور العنصرية المخالف لمبادئ اللائكية التي قامت عليها المدرسة الفرنسية إلى جانب ارتكابه خطأ بيداغوجي ثالث وهو مطالبته من التلاميذ المسلمين أن يغادروا قاعة الدرس إذا ما اعتقدوا أنهم قد يشعرون بالإهانة من خلال عرض الرسوم المسيئة لنبيهم والحال أن الدرس اللائكي يفضي إلى تقديم درس جماعي يشارك فيه الجميع بقطع النظر عن انتمائهم العرقي أو الديني أو الفوارق الاجتماعية فمطالبة هذا الأستاذ من بعض التلاميذ بمغادرة القسم لتقديم درس من دون موجب هو خطأ قد ارتكبه فيه مخالفة صريحة لقيم المدرسة اللائكية ويضع كامل المنظومة التربوية محل تساؤل كبير لفهم أوصلنا إلى هذه الوضعية ؟ ولفهم كيف حصلت عملية قتل هذا المدرس في مجتمع يفترض أنه علماني يضمن للجميع حرية التعبير والاعتراف المتبادل والعيش المشترك في كنف الاحترام والمحبة والإخاء والمساواة. إن أزمة العلمانية الفرنسية ومن ورائها أزمة المدرسة الفرنسية في كونها لم تفهم أن الدين الإسلامي قد أعاد رسم صورة مشرقة للأنبياء معاكسة تماما لصورتهم في التوراة واسترجعت مساحة نيرة كانت المسيحية والكتاب المقدس قد سلبها منهم وهكذا سطعت صورة كل الأنبياء في القرآن الذي أعاد بناء التصورات الخاصة بالمسيح على نحو يليق بنبي جاء ليغير الواقع في زمن ترذلت فيه الأخلاق وساءت فيه القيم الدينية فكان التقدير الكبير للنبي موسى وعيسى قبل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فكانت هذه أخلاق المسلمين التي تضمن التعايش الحقيقي بين الأديان وتحقق الطمأنة الحقة لا المزيفة للأخوة والمحبة والمساواة بين الجميع المطلب الذي يريد المسلم الفرنسي أن تعامله به الجمهورية الفرنسية والدولة العلمانية.