كثر الحديث بعد الثورة على الصعوبات المالية التي تعرفها الشركة التونسية لاستغلال و توزيع المياه " الصوناد " لتأمين حاجيات الشعب التونسي من المياه الصالحة للشرب عبر الحنفيات المنزلية أو ما يعرف بالماء المنزلي القادم من قنوات الشركة وذلك بعد تفاقم ديونها وتهرأ شبكاتها التي تحتاج إلى صيانة وإعادة تركيز بما يتلاءم مع الحاجيات والطلبات المتزايدة وقد أكدت كل التقارير التي أجريت حول وضعية الماء في تونس أن الحالة المتعبة التي عليها شبكات الصوناد قد تسببت في إهدار كميات كبيرة من الماء المخصص لتزويد المنازل، كان من الممكن الاحتفاظ به لو أن الشركة تعهدت بالصيانة أو قامت بأشغال لتجديد قنواتها وشبكاتها ونفس الأمر نقوله في حالة سدودنا والسياسة المتبعة من قبل وزارة الفلاحة المتعهدة بتجميع مياه الأمطار وصيانتها لاستعمالها في الزراعة والاستهلاك المنزلي حيث أفادت تقارير أجريت حول وضعية السدود أن عددا كبيرا منها غير مستغل ولم يعد صالحا لتجميع المياه في موسم الأمطار نظرا لعدم تعهدها بالصيانة اللازمة المتمثلة في إزالة ما علق بها من أوساخ وأتربة متراكمة ما منع من الحفاظ على تساقطات الأمطار بما يعني أن كميات كبيرة من التساقطات يقع هدرها وتضيع ولا يمكن الاستفادة منها لعدم قدرة بعض هذه السدود على تجميعها. ومشكل ضياع كميات كبيرة من الماء سواء بسبب تهرأ شبكات الشركة التونسية لاستغلال و توزيع المياه أو نتيجة عدم تعهد السدود بالصيانة اللازمة يحيلنا ضرورة على مسؤولية الدولة ومسؤولية الحكومة التي لم تفعل شيئا من أجل المحافظة على كميات الماء التي تتوفر عليها البلاد وغياب السياسيات والبدائل من أجل بلوغ الاكتفاء الذاتي من الماء الصالح للاستعمال المنزلي أو الاستعمال الفلاحي بما يحقق أمننا المائي الذي لا يقل أهمية وقيمة عن الأمن الغذائي والطاقي والأمن اللغوي وهو أمن يسمح بتحقيق نوع من الرفاه الذي يساعد على العيش بكل راحة وسهولة. وهذه الوضعية المتأزمة التي باتت عليها البلاد نتيجة نقص الكميات الواجب توفرها من الماء هي التي جعلت بعض الخبراء يطلقون صيحة فزع من ندرة المياه في تونس وعدم قدرة الدولة على توفير ما يحتاجه الشعب من الماء وهي التي جعلت كذلك البعض يعتبر أن تونس بلد فقير مائيا وأن كميات الماء في ربوعنا تعرف نقصا وأن كمية التساقطات في موسم الأمطار شحيحة وغير كافية لسد حاجيات البلاد من الماء وهي كلها تصريحات مبنية على الكميات المستغلة لا غير ولا تأخذ في الحسبان الكميات الكبيرة من المياه المهدورة والحال أن حقيقة الأمور أن بلادنا ليست من البلدان الفقيرة مائيا كما أنها من البلدان الواقعة في منطقة جغرافية تعرف سنويا كميات لا بأس بها من التساقطات فقط ما ينقص وما هو غائب الحوكمة الجيدة للتعامل مع موضوع الماء والإستراتيجية المطلوبة للاستفادة بأكبر قدر ممكن من المياه التي نتوفر عليها فما هو ناقص هو الارادة السياسية لتحقيق الاستفادة مما بنيناه من سدود انفقنا عليها أموالا طائلة ليبقى الكثير منها غير مستغل وخارج الخدمة نتيجة الإهمال و غياب الصيانة مما جعلها غير مؤهلة لاستقبال مياه الأمطار. إن الغريب في الأمر والقضية المحيرة أنه في الوقت الذي يروج فيه الإعلام أن بلادنا فقيرة مائيا وأننا بلد يعرف شحا في كمية التساقطات نجد شركات متعددة تستثمر في تعليب المياه ونجد استثمارات كثيرة في إنشاء مصانع لبيع الماء في القوارير ونجد تزايدا في استعمال الماء المعلب ونجد تزايد عدد العلامات التجارية لشركات جديدة تعمل في بيع الماء بعد تعليبه في قوارير والسؤال المطروح إذا كانت البلاد فقيرة مائيا فكيف نفسر تزايد شركات تعليب الماء؟ أليست هذه الشركات المتخصصة في بيع الماء تستعمل في المائدة الجوفية وتستغل مياهنا وآبارنا العميقة التي هي ملك لكل الشعب؟ فكيف نسمح للخواص بالاستثمار فيما هو ملك لكل التونسيين؟ أن ظاهرة تكاثر الاستثمار في تكوين شركات متخصصة في تعليب المياه وبيعها للمواطن وإن ظاهرة تعدد العلامات التجارية لقوارير ماء الشرب يطرح أكثر من سؤال حول حقيقة وضعنا المائي ويثير الكثير من الشكوك حول المعطيات التي يحاول أصحابها اقناعنا بها على أن تونس بلد فقير مائيا وأن الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه غير قادرة على تغطية حاجيات المواطنين من الماء ويثير شكوكا أخرى حول غياب الحوكمة والمتابعة والحرص على تعهد سدودنا بالصيانة حتى تظهر الدولة والقطاع العام في وضع العاجز عن تأمين حاجيات الشعب من الماء الصالح للشرب وبالتالي التخلي عن مياه الحنفية لصالح الماء المعلب .. إن حوالي 40 % من كميات الماء التي نتوفر عليها تهدر وتضيع جراء تقادم شبكة الصوناد وعدم استعداد الكثير من السدود على استقبال مياه الأمطار ومع ذلك نسمح لشركات خاصة باستغلال واستعمال مائدتنا الجوفية ومياهنا العميقة لبيعها للشعب في قوارير معلبة…إنها صورة أخرى من صور كثيرة للسياسات الخاطئة للدولة وصورة أخرى من صور عديدة عن تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي ودورها الراعي للصالح العام....