جاء في الآية الكريمة قوله عز وجل " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ". عملا ببعض ما جاء في هذه الآية أود أن أقص على قارئات وقراء الصريح الفيحاء، قصّة عشتها، ولا أزال أعيشها، عساها تكون عبرة هي الأخرى لأولي الألباب منّا، إن كنّا عقلاء، إذ العاقل من اعتبر بغيره. إني، كما لا شك عرف الكثيرون، أعيش في إسبانيا منذ قرابة النصف قرن، منذ أن أجبرني الظلم والطغيان، وانعدام حرية اليد واللسان، على التيه والجولان، فحططت رحالي في هذه الديار، التي مرّت وتمرّ من تجارب شبيهة بتجاربنا، وهذا ما يجعلني أقدّمها مثالا، عسى أن يكون فيه عبرة أو تحذير. كان الملك الجد حكيما مسالما، فترك العرش والبلاد، لتتجنب ويلات الشقاق والخلاف، فلم يتحقق أمله وغرق وطنه في حرب أهلية، سرعان ما تحوّلت إلى عالمية، فكانت شبه تمرين لحرب عالمية تلتها. بعد وفاته في المهجر، وبعد محاولات من ابنه وخلفه الوصول إلى اتفاق مع المنتصر في الحرب الأهلية على منح الوطن نظاما ديمقراطيا، أزال تعنت الجنرال فرانكو، وهو قائد المنتصرين رفض أي اتفاق، ونصب نفسه على مقود البلاد، دكتاتورا ظالما عنيفا، حيث بقي إلى أن مات بعد أربعين سنة ونيف. بعد مد وزجر، أوتي بالحفيد وهو في العاشرة من عمره، ليُهيّأ للملك. طفل يدخل بلدا وحده لأول مرّة، يعيش ويدرس بين حفنة من أنداده فُرِضوا عليه، يُحاط من بعيد ومن قريب بمراقبين لكل ما يأتيه، نطقا وفعلا، فعاش يراقب كلماته وحركاته، إلى أن مات الطاغية، بعد أن عينه لخلافته، فاستلم المقود بجميع السلطات والصلاحيات التي كانت بيد الراحل. كان كل من في الداخل والخارج ينتظرون منه مواصلة المسيرة بمثل ما كانت عليه. لكنه أبى إلا أن يعمل بما حلم به أبوه، فمدّ يده للجميع حتى أقام ملكية دستورية ديمقراطية، لا مكان فيها لتمييز أو كبت أصوات أو منع مشاركة، طبقا لدستور وضعه سبعة خبراء، وافق عليه الشعب في استفتاء فاجأ العالم فاعتبر مثاليا. بموجبه بويع ذلك الطفل الذي أصبح كهلا ملكا تحت اسم خوان كارلوس الأول.1 كان العالم ينتظر منه خطابا منهجيا يوضح ما ينوي وما سيفعل، فجاء الخطاب مفاجأة أزالت الشكوك. فمن ضمن ما قاله فيه: " اتقلد التاج الملكي بكامل الشعور بمسؤوليتي أمام الشعب، وبشرف الواجب الذي يمليه عليَّ تنفيذ القوانين، واحترام تقاليد عريقة اجتمعت الآن في العرش. ...نحن نبدأ الآن مرحلة جديدة من تاريخ إسبانيا، وهذه المرحلة التي سنقطعها معا، تبدأ وسط السلم والعمل والازدهار، وهي ثمرات المجهود الجماعي والإرادة الجماعية الحازمة. إن الملكية ستكون الحارس الأمين لهذا الميراث، وسنحاول في كل حين المحافظة على أوثق العلاقة مع الشعب..." هذا بعض من كثير لا حاجة لشرحه إذ هو كاف للدلالة على ملك ورث السلطات المطلقة، بإمكانه الاحتفاظ بها وممارستها، وقام بعض كبار العسكريين بمحاولة انقلاب " باسمه " فاحتجزوا كامل أعضاء البرلمان والحكومة، لكنه رغم بقائه في الساحة وحده، أفشل المحاولة وأعاد السلم للبلاد، حفاظا على الديمقراطية، لأنه فضل أن يرجع للشعب حقه، وأن يعمل معه في إسعاد الجميع تحت قبّة الحق والعدالة والعمل. لم يكتف بدوره محليّا بل قام مرات بدور السفير أو الملحق التجاري، مغتنما صداقاته الكثيرة وتبادل الزيارات الخاصة والهدايا مع الكثيرين من القادة في العالم، خاصة الملوك، العرب منهم في المقدّمة. (أذكر أني دعيت مرّة لترجمة " السيرة الذاتية " لفرس أهداه إلى الملك حسين، ملك الأردن -غفر الله له -) حقق بتدخلاته صفقات مربحة كبيرة كثيرة آخرها – لعلها هي التي أتت له بالويل – مشروع القطار السريع الرابط بين جدة ومكة المكرمة الذي كان على وشك التوقيع لإنجازه مع فرنسا، فطار، وهو يشكو ساقا مكسورة، الى أصدقائه السعوديين ولم يعد إلا والعقد موقع مع إسبانيا. رغم هذا فها هو يعامل كأي مواطن، تطبيقا لقوله وتكراره " لا أحد يعلو القانون ". هذا الملك هو اليوم في المهجر، لأن بعضهم يطالبون بمحاكمته بتهمة الارتشاء ومسك حساب مصرفي خارج الوطن، ففتحت النيابة العامة تحقيقا بشأنه. ليس هذا فقط، فالعدالة نشطة مُنجزة، وها هي المحكمة العليا تعلن يوم 17-10 – 2020 عن " الدفعة " الثانية من الأحكام النهائية ضد 29 متهما، غير المحكوم عليهم في " الدفعة " الأولى وهم مسجونون، في قضية غورتل (الحزام) المتعلقة بالحزب الشعبي وتمويله، فصدرت الأحكام بالسجن لمدد أقصاها 51 عاما وأدناها 3 أعوام. جميع المحكوم عليهم أعضاء في الحزب، تحملوا مسؤوليات عليا، أولهم رجل أعمال- وهو الفكر المدبر- والآخرون أعضاء في مجلسي الشيوخ والنواب، عمداء بلديات، مستشارون برئاسة الحكومة الإقليمية، محاسب سابق بالحزب ولا أدنى من هذه المسؤوليات. بالرغم من كل هذا، فالشعب يواصل شكواه ونقده لانعدام المساواة أمام العدالة، ويطالب بالمزيد. أين نحن من هذا؟ نحن نكتفي بالتشكي، وتعداد الاتهامات، والتغني باستقلالية العدالة، وتحمل الفقر المتزايد، والبطالة التي لا يعلم عن مداها ونتائجها إلا الله، بينما المفسدون يضحكون، على أعلى المناصب يتمتعون بما حصلوا عليه، مستمرون في الغي والغش، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. إني – ولا اشك أعبّر عما يدور بخلج أغلبية المواطنين ويطالبون به، أهيب برجال القضاء والساهرين على العدل وما إليه، أن يراجعوا ضمائرهم باستمرار، وأن يهمشوا انتماءاتهم وتحزباتهم وآراءهم الخاصة، ما داموا في مكاتبهم ومحاكمهم وهم يقضون ويحكمون، لأنهم إذا ارتدوا ثوب المهنة وقبعتها، خرجوا عن شخصياتهم وخصائصهم، وأصبحوا يمثلون الجميع، فعليهم الشعور والتصرّف باسم الجميع وللجميع وفوق الجميع. لا أشك في صدق نواياهم، ولا في معرفتهم ما عليهم، ولكن إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي. ولا أشك أنهم عرفوا ويعرفون ما جاء في قول الله عز وجل، لكني أذكرهم لأن الذكرى تنفع المؤمنين. فالله سبحانه وتعالى يقول: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداءَ بالقسط ولا يجرمنّكم شنئان قومٍ على ألّا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون. ليس ثمّة من يجهل، بين رجال ونساء القضاء والعدل، ولا بين المواطنين جميعا، من يجهل أن العدل قوام الأعمال، وأن العدل غير المساواة، وأن بالعدل تستقيم الأمور، فما أحوجنا إلى الاستقامة في أمورنا وتصرفاتنا وحتى في أقوالنا واتباع قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: مدريد في 20-10-2020.