اليوم 4 / 11/ 2020 صعقنا بنبأ نزعت فيه أرواحنا إلى التكذيب، نعي من فارقنا دون إنذار ولا انتظار، من لم نسمع منه صوت ألم ولم تبد لنا منه علامات هرم...رحيل من سكن ممن التقاه مسكن الروح، من في مواقفه منصفا وبحضوره ونّاسا (مؤنسا). إنه فعلا منصف وونّاس.... كان المنصف المدرس الميسّر والباحث رجل العلم الرصين، والمثقف الملتزم المناضل النقابي والسياسي الذي لا يلين ولا يحيد. امتد مجال اهتمامه ومناط همه من المؤسسة إلى القطر فالوطن الأكبر ثم الكوني الإنساني... وهو في كل ذلك ليّن العريكة يأبى الصدام ويمقت الإقصاء والصدّ له ومنه...لا يفقد هدوءه ولا يبخل بالابتسامة والملاطفه مهما اشتدّ الاختلاف واستقر الخلاف... منصف المدرس الباحث: يشهد الجميع للأستاذ ونّاس بشدة الانضباط والالتزام بحصص التدريس حيث يلاقيه طلبته بترحاب ورغبة لما في مادة درسه من عمق يوصله إليهم يسيرا وهو يبتسم، لا تعميم ولا إشكال ولا محاولة إحراج؛ بل تيسير وتبسيط لأشد المسائل التباسا. ترافقه ابتسامة دائمة لا تعرف الانقطاع...ابتسامة تزداد تواصلا ورسوخا يوم الامتحان تشجيعا للممتحنين مهما كان تخصصهم. فهو يلاقيهم جميعا بمرح وفي محفظته حبات حلوى يمدهم بها حين يبدو دبيب الضجر والتعب إلى نفوسهم. فيبتسمون ويتجدد العزم وتتفكك العقد ...وتبقى حركاته تلك نوادر يتبادلونها دون توقف... ولا شك في أنه كان في دروسه تلك مستندا ومرشدا إلى أبحاث دقيقة عميقة. كانت ماده مؤلفات وكتب تم نشرها ولاقت العناية والاستحسان، لما اتسمت به من عمق في البحث وثراء في المراجع وصلة بالواقع، في مسائل هي إلى ذات الإنسان المعني أقرب وأشد التصاقا. مجالها مكونات الشخصية وخصوصياتها ثم فعل الثقافة والمثقف فيها...ولم يكن الإنسان المعني بالدرس عنده من فئة محددة مخصوصة، ولا من حيز جغرافي ضيق بل هو الإنسان العربي وقد اختلفت منازله الاجتماعية وتنوعت واتسع مجال وجوده ليتجاوز القطر إلى الوطن الكبير أو جزء منه في المرحلة الأولى. فلا شك في أنّ ونّاس ذا الانتماء الإيديولوجي العربي الصريح كان يطمح ويسعى إلى سبر غور الشخصية العربية ليقف على عناصر التماثل والاتحاد فيها. وقد اختار أن يكون منطلقه القطر الذي هو فيه تونس ثم أقطار المغرب العربي تباعا. فكانت مؤلفاته في الشخصية التونسية والليبية والمغربية... ولكن توقف به الزمن. أما همه العلمي المعرفي الثاني فكان الحفر بعمق وسداد رأي في فعل الثقافة ودور المثقف في محيطه ومجتمعه. وكان في كل ذلك مؤمنا بأنّ الثقافة هي الأسّ المتين لكل مجتمع وأن المسؤول الأول عن صلابة ذاك الأساس هو المثقف الجدير بحمل تلك الرسالة. وقد اختار هو كما تشهد سيرته أن يكون هو ذاته أحد عناصر ذاك الصنف الفاعل المؤثر... فهو لم يكن ممن انزوى في قاعات الدرس ومكاتب البحث ومكتبات النبش قارئا وكاتبا ومدرسا فقط. وإنما اختار أن يكون بين الناس فلا يتردد قط في الاستجابة لنداء أي منبر علمي وإعلامي داخل القطر أو خارجه ليصدع برأيه ويوصل رسالته... منصف ونّاس المناضل لا بدّ من التأكيد أولا أن المنصف ونّاس لم يسع يوما لأن يوسم بهذا الوسم. فالرجل لم يكن ممن تغريهم الألقاب، حتى أنه كان عند سماعها يرد بابتسامته الغريبة الساخرة. وليس لأحد أن يزعم أنّ الرجل كان معنيا بالمناصب والألقاب أو السعي إليها. فلا ولاء له إلا لما آمن به من مبادئ التزم بها وظل يسعى لنشرها والإقناع بها بأيسر الطرق وألطفها. لذا لم يسجل أحد عليه التقرب من أهل السلطة والمتنفذين طيلة حياته. فقد ظل دائما بين القواعد والجموع وضمن الهياكل والمؤسسات الاجتماعية. فقد كان أولا مناضلا نقابيا وضمن الهياكل الوسطى. فكان تقريبا دائما أحد عناصر نقابة الكلية؛ بل إنه تولى مرة كتابتها العامة، وإن استغل البعض هدوءه ومسالمته للانقلاب عليه...وكان فيها متدخلا مقنعا ونشطا فاعلا يشارك في كل الحركات النضالية ويؤطرها... وفي المستوى النضال السياسي، كان وناس أيضا ممن تبنّوا الفكر القومي العربي منذ شبابه. فلم يغب أبدا عن أي تحرك نضالي فكريا كان أو عمليا. وكانت بوصلته دائما مصلحة القطر ومصيره الذي لا يراهما خارج الإطار القومي أو على الأقل في المستوى المغاربي. فقد كان يحضر التجمعات ويشارك في المسيرات ويؤسس الهياكل والمؤسسات ... كان ضمن حراك سنة 2011 ثم عضوا بهيئة تحقيق أهداف الثورة. فهو في كل المواقع المناضل الوطني ذو الأفق القومي دون تعصب لحزب أو طرح دون الآخر. إنه من القلة الذين كسروا الحواجز بين الهياكل القومية العربية. فلم يرض بالانتماء إلى حزب دون الآخر أو التقوقع ضمن طرح دون سواه. لذا كنا نلاقيه في كل تحرك من أجل القضايا العربية بل الإنسانية عامة...فهو يرى قضية شعب فلسطين قضيته الأم والوحدة العربية سبيل انعتاق الأمة الأوحد. وكان ممن فطنوا باكرا لحقيقة الثورة المغدورة عند انكشاف أمرها في سورية. فكان من مؤسسي تنسيقية دعم سورية لما كان معتنقو "الربيع" يكفّرون النظام هناك ويدعمون قوى التخريب والإرهاب... أما دوره في مجال التوعية وبث الفكر فتشهد به المنابر الفكرية والإعلامية التي كان لا يرد لها دعوة. فيكون الفاعل المؤثر فيها دون أن يفقد هدوءه ورصانته. لم يكن فيها صداميا مستفزا بل محللا مقنعا، لأنّ غايته لم تكن لفت الانتباه لذاته بل إيصال فكرته لمحاوره ومتلقيه. ولم يكن يوما هدفه البروز لجني الثمار، بل إيصال لفكر لإنارة الأفكار. فالهدوء عند الرجل أصيل غير مصطنع والقناعة مبدأ وخدمة الآخر مسؤولية... وناس الإنسان… لا شك أنّ سلوك الرجل وقد وصفناه في مجالات تحركه، ليس إلا انعكاسا لقيم ومبادئ وسمات أخلاقية شكلت ملامح شخصيته. فهو ممن لم نسمع لهم يوما صوتا مرتفعا أو موقفا منفعلا. بل كان دائم اللطف والهدوء والسيطرة على النفس حتى في أعسر المواقف وأشدها حدّة. فهو لا يتخلّف عن تحرك ذي بعد إنساني دون اعتبار من يوجه إليه. وونّاس هو المبادر دائما بالتحية والسلام لمن يلاقيه وعلى محياه ابتسامة لا تكاد تخفي. وهو عند المحادثة جيد الاستماع مطيله، حتى يبدو كأنه الجاهل المتعلم. بل إنه حين يتكلم يكون كلامه في الغالب تساؤلا حتى يتصور من لا يعرف الرجل أنه ينمّ عن جهل بما يقال، خاصة أنه يقرنه في الغالب بملامح تنمّ عن الاستغراب والتعجب. وليس ذلك في الحقيقة إلا تواضعا واعترافا بحق الآخر في إبداء رأيه بل تشجيعه عليه. لقد كان المنصف في كلمة رجلا قويا صلبا صاحب مبدأ بل مبادئ، عميق النظر دقيق الفكرة...لكن في صورة طفل لين لطيف...لكن أثره في النفس يدب إليها دبيبا فيسكن فيها عالما ومعلما ومناضلا، لذا نراه هدوأ يترك الصخب...