رغم منعه من السفر : مبروك كرشيد يغادر تونس!    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    طقس اليوم: أمطار في هذه المناطق وانخفاض في درجات الحرارة    مدنين: حجز 4700 حبة دواء مخدر وسط الكثبان الرملية    مهرجان هوليوود للفيلم العربي: الفيلم التونسي 'إلى ابني' لظافر العابدين يتوج بجائزتين    اتحاد الشغل بجبنيانة والعامرة يهدد بالإضراب العام    نقل مغني فرنسي شهير إلى المستشفى بعد إصابته بطلق ناري    الأمم المتحدة: آسيا أكثر مناطق العالم تضرراً من كوارث المناخ ب2023    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    أراوخو يكشف عن آخر تطورات أزمته مع غوندوغان    الجزائر.. القضاء على إره.ابي واسترجاع سلاح من نوع "كلاشنكوف"    البطولة الأفريقية للأندية الحائزة على الكأس في كرة اليد.. الترجي يفوز على شبيبة الأبيار الجزائري    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    البنك التونسي السعودي ... الترفيع في رأس المال ب100 مليون دينار    في اختتام المهرجان الدولي «إيتيكات» بسوسة.. شعراء وفنانون عرب بصوت واحد: «صامدون حتى النصر»    هذه أبرز مخرجات الاجتماع التشاوري الأول بين رؤساء تونس والجزائر وليبيا    تغييرات مرتقبة في التركيبة العمرية    بيان أشغال الاجتماع التشاوري الأوّل بين تونس والجزائر وليبيا    مذكّرات سياسي في «الشروق» (1)...وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم .. الخارجية التونسية... لا شرقية ولا غربية    المنستير.. الاحتفاظ بمدير مدرسة إعدادية وفتح بحث ضده بشبهة التحرش الجنسي    بوعرقوب.. عصابة سرقة الاسلاك النحاسية في قبضة الحرس الوطني    بنزرت: غلق حركة المرور بالجسر المتحرك في الساعات الأولى من يوم الثلاثاء    الحشاني يشرف على جلسة عمل وزارية بخصوص مشروع بطاقة التعريف وجواز السفر البيومتريين    الإعلان عن تأسيس المجمع المهني للصناعة السينمائية لمنظمة الأعراف "كونكت"    بداية من يوم غد: أمطار غزيرة وانخفاض في درجات الحرارة    بوعرقوب: القبض على 4 أشخاص كانوا بصدد سرقة أسلاك نحاسية خاصة بشركة عمومية    مدنين: العثور على 4700 حبّة مخدّرة وسط الكثبان الرملية بالصحراء    استلام مشروع تركيز شبكة السوائل الطبية لوحدة العناية المركزة بقسم الأمراض الصدرية بالمستشفى الجامعي الهادي شاكر    قفصة: الإطاحة بشخص محل 10 مناشير تفتيش    عطلة طارئة في ليبيا تحسّبا لمنخفض جوي مرتقب    تونس: وفاة 4 أطفال بسبب عدم توفّر الحليب الخاص بهم    وزير الشؤون الاجتماعية يُعلن عن بعث إقليم طبي بالقصرين ..التفاصيل    تحذير هام/ بيض مهرّب من الجزائر يحمل هذا المرض!!    الكاف: تقدم مشروع بناء سد ملاق العلوي بنسبة 84 %    بن عروس: توجيه 6 تنابيه لمخابز بسبب اخلالات تتعلق بشروط حفظ الصحة    باجة: انطلاق الاستعدادات لموسم الحصاد وسط توقعات بإنتاج متوسط نتيجة تضرّر 35 بالمائة من مساحات الحبوب بالجهة    وصول محمد الكوكي الى تونس فهل يكون المدرب الجديد للسي اس اس    غوارديولا : لاعبو سيتي يعدون أنفسهم للمهام المقبلة    تقرير: شروط المؤسسات المالية الدولية تقوض أنظمة الأمان الاجتماعي    بعد ترشّحها لانتخابات جامعة كرة القدم: انهاء مهام رئيسة الرابطة النسائية لكرة اليد    دورة مدريد للتنس : انس جابر تفتتح مشاركتها بملاقاة الامريكية كينين او السلوفاكية سمليدوفا في الدور الثاني    حليب أطفال متّهم بتدمير صحة الأطفال في الدول الفقيرة    تكريم هند صبري في مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة    عرض فرجوي بإعدادية القلعة الخصبة دعما للقضية الفلسطينية    ائتلاف صمود يدعو الى إطلاق سراح السياسيين المترشحين للرئاسية..    بغرض تهريبه: حجز كمية من مادة المرجان مخفية بأحد المنازل..!!    الرابطة الأولى: تعيينات منافسات الجولة الخامسة لمرحلة التتويج    رئيس غرفة القصّابين عن أسعار علّوش العيد: ''600 دينار تجيب دندونة مش علّوش''    وزارة الدفاع الوطني تعرض أحدث إصداراتها في مجال التراث العسكري بمعرض تونس الدولي للكتاب    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس    هاليب تنسحب من بطولة مدريد المفتوحة للتنس    حريق بمحل لبيع البنزين المهرب بقفصة..وهذه التفاصيل..    لأقصى استفادة.. أفضل وقت لتناول الفيتامينات خلال اليوم    في سابقة غريبة: رصد حالة إصابة بكورونا استمرت 613 يوماً..!    أولا وأخيرا..الكل ضد الكل    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتلة التاريخية في تونس مشروع ممكن التحقُقّ أم أحلام يقظة؟ : صابر عبد الرحمان
نشر في الفجر نيوز يوم 14 - 06 - 2010

تتحدث أغلب التيارات السياسية والفكرية التونسية الآن عن العمل المشترك. ويذهب المتفائلون في هذه القوى إلى الحديث عن توفر أسباب بناء كتلة تاريخية. وفي هذا الإطار لابدّ من التذكير بأن مفهوم الكتلة التاريخية ظهر مع المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في ظروف مقاومة الفاشية، خلال أواخر عشرينات القرن الماضي. كما ظهر توجه داخل الساحة السياسية الفرنسية يحمل تقريبا نفس الأهداف عندما انتقل اليساريون الفرنسيون في الحزب الشيوعي الفرنسي من تبني شعار "طبقة ضد طبقة وجبهة موحّدة في القاعدة" إلى تبني شعار "جبهة موحدّة ضد الفاشية"، وذلك بعد بروز خطر اليمين المتطرّف وظهور تنظيماته شبه العسكرية على الساحة الفرنسية. وانفتحت التحالفات السياسية آنذاك حتى على القوى السياسية البورجوازية المؤمنة بالديمقراطية. ونتج عن ذلك فوز تحالف "الجبهة الشعبية" اليساري بانتخابات سنة 1936، مما قطع الطريق أمام وصول اليمين المتطرّف إلى الحكم في فرنسا.
وتبرز الحاجة الملحّة إلى بناء الكتلة التاريخية في ظروف وجود موانع قوية لبناء حياة ديمقراطية سليمة متمثلة في وجود أنظمة استبدادية من جهة وفي حالة عجز أي من التنظيمات الديمقراطية الناشطة في ساحة سياسية ما منفردة عن القيام بأعباء التغيير الديمقراطي السلمي، الذي ينشده المجتمع من جهة أخرى.
ولعلّ من الدوافع المباشرة للكتابة في هذا الموضوع هو أهمية ما نشره مؤخرا الدكتور رفيق عبد السلام في مجلة المستقبل العربي تحت عنوان "في الحاجة إلى بناء الكتلة التاريخية: الحالة التونسية أنموذجا" رغم الأخطاء الواردة في المقال من حيث متابعة بعض الباحثين التونسيين لتاريخ بلادهم الآني[1]. إذ أصبح حزب العمال الشيوعي التونسي مشاركا لحركة النهضة في عمل جماعي في أواخر الثمانينات، والصحيح هو الحزب الشيوعي التونسي الذي كان أمينه العام محمد حومل. كما أصبح الحزب الديمقراطي يسمى الآن التجمع الديمقراطي بزعامة أحمد نجيب الشابي والصحيح هو التجمع الاشتراكي التقدمي الذي غيّر اسمه سنة 2001 إلى الحزب الديمقراطي التقدمي. وتناول مثل هذه المواضيع يتطلب دقّة لا تستحيل على الباحث لو عاد فقط إلى دليل إفريقيا الشمالية (Annuaire de l'Afrique du Nord) الذي كان يصدره المركز الفرنسي للبحث العلمي كل عام إلى حدود 2004. وقد يكون الخطأ الذي وقع فيه الباحث رفيق عبد السلام نتيجة غربته القسرية الطويلة.
وقد بدا الباحث رفيق عبد السلام في هذا المقال متفائلا جدا في التنبؤ بتوفّر إمكانات بناء هذه الكتلة في تونس، ويُفترَض في مثل هذا الوضع أن يكون التنبؤ عن معرفة كما علّمنا قاستون باشلار في مقولته "المعرفة للتنبؤ والتنبؤ للسيطرة". ولكن هذا التفاؤل لا يمنعنا من طرح الأسئلة الضرورية التالية: ألا يبدو ضروريا تشريح تاريخ العمل السياسي لقوى المعارضة التونسية – على الأقل منذ فترة الثمانينات – لنفهم كيف تطوّرت الأمور؟ هل تمّ إلى حدّ الآن القيام بتقييم موضوعي لتجربة 18 أكتوبر ودراسة أداء مختلف الفاعلين فيها؟ ألا يبدو وضعها الحالي شبيها بحالة المريض الذي يحتضر؟ وقد يكون السؤال الأشد خطورة في هذا الموضوع هل ثمة اليوم في تونس من سماهم قرامشي بالمثقفين العضويين الذين ينهضون بمهمة قيادة الجماهير نحو التغيير السلمي، الذي تحدثه الكتلة التاريخية، وهم المثقفون الذين أطلق عليهم الدكتور عبد الفتاح ماضي تسمية "القوة الدافعة وراء الكتلة"[2]؟
عودة مؤلمة إلى التاريخ ولكنّها ضرورية
إذا انطلقنا من فرضية أن هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات كانت فرصة لبناء كتلة تاريخية أفشلتها عوائق ما، كان لزاما علينا أن نبحث في كنه هذه العوائق. هل هي عوائق ظرفية زائلة يسهل تجاوزها أم هي عوائق بنيوية يتطلب تجاوزها جراحات عميقة ونقدا ذاتيا لا يقفز على التاريخ، ويغطي الندوب العميقة بمساحيق لا تصمد كثيرا أمام عوامل التعرية القوية، فيتطاير غبارها وتظهر الأخاديد من جديد وقد حُفِرت أكثر؟ وهل يمكن أن تُبنى علاقات إستراتيجية يمكن أن ينتُج عنها قيام كتلة تاريخية دون القيام بعملية نقد ذاتي جريئة للماضي، الذي يصفه البعض دون تفصيل "بماضي أخطاء العمل الانعزالي".
فعلى حدّ علمنا لم يقدّم أي تيار سياسي في البلاد نقدا ذاتيا هاما لتاريخه السابق ما عدا محاولة قامت بها حركة النهضة سنة 1995 في المهجر في إطار بحثها عن أسباب فشلها في مواجهة السلطة القائمة. وهذه المحاولة لم يطلِّع عليها أوسع الجمهور لعدة عوامل ليس المجال هنا لتفصيلها. وربما تكمن الأسباب الحقيقية لفشل هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات في غياب هذا النقد الذاتي المؤسس عند مختلف مكوِّناتها.
إنّ كلّ تجارب الوئام الناجحة بين الفرقاء ارتكزت على مبدأ المصارحة الذي يسبق خيار المصالحة لأن كل المصالحات المبنية على القفز على معطى الماضي تجعل تجاوز هذا الماضي صعبا جدا بل مستحيلا. وهنا لابد أن نذكر مفارقة تبيّن في نظرنا هشاشة "تحالف" هيئة 18 أكتوبر وتؤكد استحالة تحوّلها إلى وعاء لتشكل كتلة تاريخية. ففي الوقت الذي كان فيه حمة الهمامي زعيم حزب العمال الشيوعي التونسي يجلس داخل أطر هيئة 18 أكتوبر مع علي العريض القيادي في حركة النهضة، كان قيادي طلابي ينشط صلب حزب العمال الشيوعي التونسي يكتب مقالا في نشرية يصدرها طلبة هذا الحزب داخل الجامعة تحت عنوان "الجامعة: طيور الظلام تعود من جديد"، في إشارة إلى حدث جدّ في كلية الحقوق بتونس أصرّ فيه طلبة "اتحاد الشباب الشيوعي التونسي"(فصيل شبابي تابع لحزب العمال الشيوعي التونسي) على منع طالب إسلامي من الحديث في اجتماع عام [3].
وكثيرا ما يُرفَع شعار "سحقا سحقا للرجعية دساترة وخوانجية" في الحفلات التي ينظمها الآن الاتحاد العام لطلبة تونس، الذي تنشط فيه التيارات اليسارية. وكلمة "خوانجية" هي السبّة التي ابتدعها اليساريون خلال السبعينات لاستهجان الطلبة الإسلاميين، هذا في الوقت الذي انتهى فيه نشاط التيار الإسلامي التابع لحركة النهضة (الاتجاه الإسلامي في الحركة الطلابية) منذ سنة 1991. وهذا القفز على الماضي لا تعاني منه الأطراف الناشطة داخل هيئة 18 أكتوبر فقط بل نجده أيضا لدى تحالف آخر بدأ يتكوّن منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي وتوضّح خلال الانتخابات العامّة التي جرت في تونس سنة 2004 وتواصل خلال انتخابات أكتوبر 2009 وهو التحالف الملتقي حول حركة التجديد (الحزب الشيوعي التونسي سابقا)، والمسمى الآن بالمبادرة الوطنية من أجل الديمقراطية والتقدم.
فحركة التجديد عندما تخلّت عن اسمها السابق: الحزب الشيوعي التونسي فتحت أبوابها لعديد النشطاء الطلابيين السابقين ضمن فصائل أقصى اليسار. وتاريخ اليسار في تونس يشهد على أن هؤلاء كانوا من أشد الأطراف عداء للحزب الشيوعي التونسي، بل كانوا لا يتورّعون عن استعمال العنف ضد طلبته في الجامعة ويعتبرونهم" تحرفيين" و"عملاء موسكو". وتمّ هذا التحوّل دون أن يعلنوا للناس ما هي الأسباب التي قادتهم إلى ذلك، مما يدعم التساؤلات حول عدم مبدئية هذه التحوّلات. وهو ما أكّدته الإقصاءات التي تمّت داخل حركة التجديد بعد مؤتمرها الأخير في 2008. ففي جهة القيروان مثلا تمّ إقصاء مناضل شيوعي ارتبط وجود الحزب الشيوعي في تلك الجهة باسمه منذ بداية الثمانينيات وهو السيد حمدة معمّر. وتمّ إقصاؤه من قبل مجموعة كانت تنشط في فصائل أقصى اليسار، متهمة إياه بالليبرالي وبالمشوِّهِ للفكر الشيوعي، مما دفعه إلى الارتماء في حضن حزب إداري (حزب الوحدة الشعبية). كما تم إقصاء مرشح الحركة للانتخابات الرئاسية سنة 2004 الأستاذ الجامعي محمد علي الحلواني.
وكانت الأطراف الملتقية مع حركة التجديد ضمن "المبادرة الوطنية" قبيل انتخابات 2009 وهي حزب العمل الوطني الديمقراطي والحزب الاشتراكي واليساري واليساريون المستقلون تعمل ضمن دائرة أقصى اليسار فحزب العمل الوطني الديمقراطي كانت أغلب قياداته تنشط ضمن تنظيم الشعلة الماوي، أما الحزب الاشتراكي اليساري فمعروف أن رمزه الأول محمد الكيلاني كان من قيادات تنظيم "العامل التونسي" ثم "حزب العمال الشيوعي التونسي" قبل أن ينشق عنه في منتصف التسعينيات ويؤسس مجموعة "الكتلة" التي كوّنت ما يعرف الآن بالحزب الاشتراكي اليساري، ويُعتبر هذا التنظيم الحزب غير القانوني الوحيد الموالي للنظام في تونس.
أما بالنسبة لحركة 18 أكتوبر فإن أغلب الأطراف المكوِّنة لها لم تُقدِّم نقدها الذاتي ولم تفسِّر للمتابعين التحولات التي طرأت عليها. فالحزب الديمقراطي التقدمي الذي يقدِّم نفسه اليوم بصفته الحزب المعارض الرئيسي للنظام القائم لم يقدِّم نقدا ذاتيا في خصوص اصطفافه وراء السلطة القائمة عند ضربها لحركة النهضة سنة 1991، فزعيم هذا الحزب كان مبعوثا خاصا لرئيس الدولة التونسية لدى الرئيس اليمني زمن هجمة السلطة على الحركة الإسلامية، وكان عناصر من مكتبه السياسي أعضاء في "اللجنة الوطنية لحماية الجامعة والمؤسسات التربوية"، التي شُكِّلت من مختلف القوى السياسية، وأدانت "عنف الإسلاميين في الجامعة"[4] والحال أن الضحايا كانوا في صفوف الإسلاميين.
وحزب العمال الشيوعي التونسي وصل حدّ التعاون مع الأجهزة الأمنية في حربها ضد الإسلاميين[5]، بل كان له الفضل في تدشين مرحلة صحافة الفضائح في تونس عبر الشريط المزعوم الذي فبركه هذا الحزب خلال أواخر الثمانينيات ضد الشيخ عبد الفتاح مورو القيادي البارز في حركة النهضة آنذاك.
إن هذا الماضي المسكوت عنه للأطراف الفاعلة في الساحة السياسية التونسية، ربما، هو الذي يفسّر الحالة التي عليها الآن التحالفات السياسية في البلاد، والمعيقة لبناء الكتلة التاريخية المنشودة. وربما يكون البوح المتبادل هو المقدمة الضرورية لبناء الثقة الحقيقية بين مختلف الأطراف. فما هي سمات هذا الوضع التي تؤكد هشاشة تجربة العمل السياسي المشترك في تونس؟
18 أكتوبر تجربة تحتضر وقصعة معاوية تسيل لعاب "أعتى" المعارضين:
قبل تحليل أسباب فشل التجربة لابد من التعرّض للأسباب العميقة لبروز مثل هذا "الائتلاف". وهي أسباب تعود إلى ما شهدته البلاد من فرز سياسي إثر انتخابات أفريل 1989 حيث تبيّن أن البلاد منقسمة بين فصيلين سياسيين رئيسيين، فصيل في السلطة وبيده أجهزة الدولة، وفصيل معارض اعتقد أن بإمكانه تحريك الشارع لفرض الحريات في البلاد وهو حركة النهضة.
وفيما كانت السلطة تسعى لحشد أغلب قوى المعارضة التونسية إلى جانبها في تلك المعركة عبر أساليب متعددة، كانت حركة النهضة تتجه حثيثا إلى معركة غير متكافئة في القوّة، رغم ما برز من شبه تكتّل لقوى المعارضة الوازنة في الساحة من أجل فرض تنازلات سياسية على السلطة. وهذا، ربما، ما جسّده حضور أغلب التيارات السياسية في البلاد المؤتمر الثالث لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين الذي انعقد خلال شهر ديسمبر 1990 تحت شعار يعكس يقين المنظمين بأن التغيير الذي حدث في البلاد كان تغييرا زائفا، وهو الشعار التالي "تعبئة كل القوى الديمقراطية من أجل فرض التغيير الحقيقي". وكان الغائبان الوحيدان عن هذا المؤتمر هما التجمع الدستوري الديمقراطي وحزب العمال الشيوعي التونسي.
إلاّ أنّ وطيس المعركة الذي حمى بين السلطة والنهضة خلال ربيع/صيف 1991 كان كفيلا بانفراط عقد هذا الالتقاء الهشّ، حيث وضعت السلطة كلّ ثقلها من أجل ضمان حياد فصائل المعارضة التونسية في هذه المبارزة الفاصلة، مستعملة أسلوب الترهيب حينا، وأسلوب الترغيب حينا آخر. كما برزت حسابات خاصة لدى قوى عديدة في المعارضة تتمحور أساسا حول توَقُّع الحصول على "مغانم كثيرة" من وراء هذا الاصطفاف. فمحمد مواعدة الرمز الأول لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين الذي "حارب" من داخل حركته خلال مؤتمرها الثالث لترفع الشعار الذي تحدثنا عنه، والذي كان يتجاوب مع تشكِّيات أعضاء قيادة الاتحاد العام التونسي للطلبة خلال شهري مارس وأفريل 1991 من تجاوزات قوات الأمن داخل الحرم الجامعي، نجده رئيسا للّجنة التي بعثتها السلطة في الجامعة بهدف تحييد هذه الأخيرة عن الصراع السياسي الدائر، وإدانة التحركات الطلابية التي نظمها الطلبة الإسلاميون خلال شهر ماي 1991 وراح ضحيتها طالبان إسلاميان برصاص قوات الأمن.
واصطفّت أغلب القيادات السياسية في البلاد وراء السلطة في صائفة 1991 ما عدا إبراهيم حيدر القيادي في حركة الوحدة الشعبية، وتيار المناضلين الوطنيين الديمقراطيين بقيادة النقابي أحمد الكحلاوي، والتيار الذي كان يقوده مصطفى بن جعفر داخل حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، والذي سيجد نفسه مجبرا على مغادرة الحركة بعد استقواء محمد مواعدة والعناصر الموالية له في الحركة بالسلطة. وفي إطار هذا الاصطفاف وراء السلطة أصبح التقاء عديد الزعماء السياسيين واضحا مع السلطة، بل شغل بعضهم صفة المبعوث الخاص لرئيس الدولة مثلما ذكرنا ذلك سابقا. كما تمّت مكافأة الاتحاد العام لطلبة تونس الذي كان يسيطر عليه حزب العمال الشيوعي التونسي، إذ كانت العناصر القيادية البارزة في ذلك الاتحاد أمثال نوفل الزيادي والطاهر قرقورة معروفة بانتمائها لتيار "النقابيين الثوريين" قبل أن يتحول إلى اتحاد الشباب الشيوعي التونسي سنة 1986 وهو الذراع الطلابي "للعامل التونسي" التنظيم الذي تحوّل هو بدوره إلى تنظيم حزب العمال الشيوعي التونسي سنة 1986 أيضا.
وكانت مكافأة الاتحاد متمثلة في دعمه بعشرين ألف دينار، ووضع قصر المؤتمرات بالعاصمة على ذمته ليعقد مؤتمره العشرين، وهو المؤتمر الذي أفرز قيادة طلابية يسيطر عليها حزب العمال الشيوعي التونسي، وافقت على تحييد الجامعة عن العمل السياسي، أي حققت للسلطة ما لم تستطيع إنجازه هي بنفسها على مدى عشرين سنة. أما الاتحاد العام التونسي للشغل فإن نتائج مؤتمر سوسة 1989 التي أفرزت قيادة على رأسها إسماعيل السحباني كانت كفيلة بجعله مصطفا اصطفافا كليا وراء اختيارات السلطة. ومعلوم أن السحباني انتهى لصا، وكان مصيره هو الآخر سجن 9 أفريل المدني.
لكن "ما كل ما يتمنى المرء يدركه"، وطال انتظار قوى المعارضة المتحالفة مع السلطة لمبادرة من هذه الأخيرة تجعلهم شركاء لها. وكان هؤلاء يمنّون النفس بمشهد سياسي يستجيب لطموحاتهم السياسية. إلاّ أن نتائج الانتخابات البلدية لسنة 1995 مثّلت خيبة أمل كبرى لدى القواعد التي سارت خلف القيادات المتحالفة مع السلطة، وخاصة لدى قواعد حركة الديمقراطيين الاشتراكين. وفي محاولة لامتصاص غضب هذه القواعد تمت صياغة ورقة، كانت معدّة للاستهلاك الداخلي، تبيّن رفض حركة الديمقراطيين الاشتراكيين لتلك الانتخابات. إلا أن حسابات داخلية في الحركة جعلت الورقة تخرج إلى العلن مما استوجب غضب السلطة.
وتذهب عديد المصادر إلى أن من سرّبها هو خميس الشماري لحسابات خاصة به تتمثل في محاولة إزاحة العناصر التي تمثّل عائقا أمام سيطرته الكلّية على الحركة، خاصة بعد انسحاب شق مصطفى بن جعفر منها. ومعلوم أن خميس الشماري كان قد كوفئ من قبل بالحصول على مقعد في البرلمان كنائب عن جهة بن عروس. ووجد محمد مواعدة نفسه جنبا إلى جنب مع السجناء الإسلاميين داخل زنزانات السجن المدني 9 أفريل متّهما بالتخابر مع دولة أجنبية وهي ليبيا، بعد أن كان مبعوثا خاصا لرئيس الدولة لدى العقيد معمر القذافي. ونفس المصير تقريبا لقيته قيادات أخرى في المعارضة إذ تمّ جلب حمة الهمامي إلى السجن. كما اتُّهم نوفل الزيادي في قضية مخدّرات. ولم تنج الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من هذا الاصطفاف وراء موقف السلطة، إذ نجد رئيسها الدكتور منصف المرزوقي إثر أحداث ماي 1991 يدين الطلبة الإسلاميين ويحمّلهم تبعات ما حصل في الجامعة.
وخلاصة القول هي أن حقبة التسعينات كانت حقبة سوداء في التاريخ السياسي للبلاد حيث حُجِّم العمل السياسي إلى أدنى مستوى له، وصمتت غالبية النخب على الانتهاكات التي حصلت في البلاد. ولكن ما إن انتهت هذه الحقبة حتى استفاق الجميع على حجم الكارثة السياسية التي حلّت بالبلاد، فواصل البعض سياسة موالاة السلطة فيما أخذ البعض، وخاصة ممن مسّهم ضرّ السلطة أو هُمِّش دورهم، مسافة عن الحكم. ولم يكن هناك من موضوع يعطي حياة جديدة لعديد الأطراف السياسية والحقوقية سوى موضوع القمع الشديد الذي لحق بالإسلاميين.
وكان النصف الثاني من حقبة تسعينيات القرن الماضي قد شهد تأسيس المجلس الوطني للحريات من قبل المقصيين من مؤتمر الرابطة لسنة 1994 وناشطين في صلب الحزب الجديد الذي أسسه المطرودون من حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، وهو التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات. وفتح تعايش مناضلي حزب العمال الشيوعي التونسي مع مساجين حركة النهضة في السجون إمكانات حوار بين التوجهين المتناقضين. وتواصل تصلّب النظام بعد أن أعطته أحداث 11 سبتمبر 2001 نفسا ثانيا لممارسة مزيد من القمع، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من تقديم تنازلات سياسية تُحدث شيئا من الانفتاح في الحياة السياسية في البلاد، وذلك نتيجة الضغوط الأمريكية أساسا. فالولايات المتحدة الأمريكية والنظام التونسي أصبح لديهما عدو مشترك هو "الإرهاب الإسلامي"، ومقاربة النظام أصبحت وجيهة شيئا ما لدى الدوائر الغربية أو هكذا بدا للنظام.
ويبدو أن نقاشات حصلت خارج البلاد، ولم تكن الدوائر الأجنبية بعيدة عنها، قد أفضت إلى اتفاق فرقاء عديدين على انجاز عمل يكون بمثابة الامتحان التجريبي لعمل سياسي مشترك في المستقبل، فكان إضراب الجوع الشهير الذي شنه ثمانية مناضلين من قادة الأحزاب ونشطاء حقوق الإنسان البارزين كان من بينهم حمّة الهمامي زعيم حزب العمال الشيوعي التونسي وعبد الرؤوف العيادي عضو العامل التونسي في السبعينيات ونائب رئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يقوده منصف المرزوقي من خارج البلاد الآن ومحاميان إسلاميان هما سمير ديلو ومحمد النوري والمحامي العياشي الهمامي وأحمد نجيب الشابي أمين عام الحزب الديمقراطي التقدمي.
ولم يكد هذا الإضراب يُرفَع يوم 18 نوفمبر 2005 حتى انبثقت عنه هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات. وكان إضراب الجوع الوطني قد حظي بتعاطف عديد النخب التونسية إلا أنّ مشاركة الإسلاميين فيه جعلت نخبا أخرى تتحفّظ على المشاركة، بل وتتوجّه بلوم شديد إلى رفاقها السابقين متهمين إياهم بتوفير فرصة "للإسلاميين للعودة إلى الجامعة"[6] في حين سحب آخرون دعمهم للهيئة بعد أن ساهموا في تأسيسها، إذ سُجل انسحاب سناء بن عاشور رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات الآن من رئاسة لجنة الإعداد لانبثاق الهيئة، وقاطع شق كبير من اليسار أعمال الهيئة مثل حركة التجديد، رغم عدم اختلافها مع المضربين عن الطعام في توصيف الواقع التونسي. وشهدت هذه الحركة، حركة التجديد، انقسامات في الموقف من الإسلاميين بين مؤيد لحقّهم في العمل السياسي ورافض لذلك الأمر وكانت الغلبة في النهاية للرافضين.
وفي الوقت الذي يعتبر فيه عديد الباحثين أن عجز أي مجموعة سياسية أو فكرية عن إحداث التغيير الديمقراطي المنشود في أي قطر من أقطار الوطن العربي بجهد فردي يتطلّب قيام كتلة تاريخية تعتمد تكتيك "الديمقراطية الآن والإيديولوجيا غدا"، يتشبّث كثير من السياسيين والمثقفين في تونس بمقولة الالتقاء الإيديولوجي أولا وبعد ذلك يأتي السياسي. وهذا حصل حتى داخل هيئة 18 أكتوبر نفسها، إذ طغى ما اعتبره البعض "الابتزاز الفكري للإسلاميين" على جلّ أعمال هذه الهيئة، في حين تم تجميد الشعارات المركزية الثلاثة التي بُنِيَت عليها هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات، وهي حرية التعبير وحرية التنظم والعفو التشريعي العام، وغُيِّبت التحركات الميدانية المنادية بتلك المطالب، وصيغت نصوص تتعلق بقضايا المرأة وحرية الضمير والمعتقد والموقف من علاقة الديني بالسياسي.
إلا أن الاستحقاق الانتخابي لشهر أكتوبر 2009 كان المحكّ الأهمّ الذي أسقط تجربة 18 أكتوبر وبيّن عدم تأهُل السياسيين التونسيين لبناء كتلة تاريخية، إذ انقسم فرقاء هيئة 18 أكتوبر بين داع للمشاركة ومدافع عن المقاطعة. وتمّ وضع الهيئة في غرفة العناية المركّزة، مع أمل في الحياة لا يتجاوز 0،1% وذلك عندما اشترط أحد أقطاب هذه الهيئة مساندة ترشحه للانتخابات الرئاسية مقابل مواصلة الالتقاء داخل هذه الهيئة. فقد صرّح أحمد نجيب الشابي أنه أنهى مشاركته في تجربة هيئة 18 أكتوبر في حين تبقى لحزبه حرية اختيار الموقف الذي يناسبه، وكأن الانتخابات تحمل رهانا انتخابيا حقيقيا، بل وغضب الشابي عندما لم تُوفِّر له حركة النهضة عضوين من أعضائها يوقّعون مع الشخصيات الوطنية السبع التي ساندت ترشحه في البداية، مع أنّ كثيرا من هؤلاء سحب مساندته للشابي بعد صدور القانون الخاص بالانتخابات الذي حرم الشابي من الترشّح. بل اقترح علية أبرز مسانديه وهو الأستاذ العياشي الهمامي تقديم ترشح مية الجريبي الأمينة العام للحزب الديمقراطي التقدمي، وهو ما يسمح به القانون. وبدا أن أمل البعض في أن يكون أداء مية الجريبي شبيها بذلك الذي تقدّمه لويزة حنون رئيسة حزب العمال في الجزائر مجرّد وهم، وذلك بعدما تبيّن أنّ الشابي لم يتخلّ إلا صوريا عن منصب زعيم الحزب وأن لعنة التمسك بالزعامة على مدى الحياة التي ورثتها النخبة التونسية عن بورقيبة لا تزال تلازم غالبية قادة العمل السياسي في تونس.
وتبيّن أن تحوّل الالتقاء على أساس المشترك السياسي داخل حزب الشابي وتخليه عن الايديولوجيا لم يكن سوى دعاية زائفة، ومحاولة لجلب "كومبارس" من الإسلاميين إلى حزب كان قاب قوسين أو أدنى من التلاشي بعد انسحاب أبرز مؤسسيه وسط التسعينيات، ونعني بذلك الزوجين عمر المستيري وسهام بن سدرين وأعضاء آخرين. بل أصبح الشابي يمنّ على الإسلاميين أنه أخرجهم من العزلة. وكثيرا ما يُصرِّح أنّ ذلك كلّفه غضب النظام ومحاصرته له في إيحاء إلى إمكانية العودة إلى قصعة معاوية.
إن عجز هيئة 18 أكتوبر عن التحوّل إلى عمل يأتي في سياق بناء الكتلة التاريخية المنشودة التي حدّد لها الدكتور محمد عابد الجابري مهام على مستوى الوطن العربي تتلخص في "التحرر من التبعية، وإقرار الديمقراطية، وتحقيق تنمية مستقلة"[7] يعود إلى عوائق بنيوية تعيشها مكوِّنات هذه الهيئة. وهذه الصعوبات البنيوية لا تهمّ مكوِّنات هيئة 18 أكتوبر فقط، بل هي عوائق تشمل كل الأحزاب التونسية ومنظمات المجتمع المدني والنخب دون استثناء. فما هي هذه العوائق؟ وهل ثمة أمل في المدى المنظور لتجاوزها؟
عوائق بنيوية أمام بناء الكتلة التاريخية في تونس
إن بناء كتلة تاريخية تنهض بأعباء التصدي للمهام التاريخية المطروحة على مجتمعنا تصطدم بعوائق بنيوية متعددة إضافة إلى العائق التاريخي، بما يعنيه من نقد ذاتي علني من قبل كل الأطراف التي ترى نفسها معنية ببناء كتلة تاريخية، وهو عائق ذكرناه ضمن الباب المعنون ب"عودة مؤلمة إلى التاريخ ولكنّها ضرورية" وهذه العوائق هي:
1 - غياب المراجعات الفكرية الضرورية، إذ لا تزال العائلات الفكرية الرئيسية في البلاد تتمسك بأفكار مرحلة التنافي، التي عرفت أوجها في الثمانينات من القرن الماضي، والتي تجسّدت على أرض الواقع في محطات محدودة في الزمن، ولكنها معبِّرة من ناحية المضمون على غياب فكر القبول بالآخر المختلف. ولعل أبرز تمظهر لهذا التنافي تجسّد في أحداث منوبة مارس 1982 حيث سالت الدماء، وكتب المعتدون بيت شعر لمظفر النواب يقول فيه "وطني علمني أن حروف التاريخ تكون مزيفة حين تكون بدون دماء "[8]
2 - تواصل تفشي مرض الزعامة وتخريب العمل المشترك ويظهر ذلك في تضخم الأنا لدى العديد من زعماء المعارضة التونسية، واحتقار الأطراف الأخرى. إذ يصرّ البعض على اعتبار نفسه الحزب المعارض الأول في البلاد، في حين أن نتيجة كهذه لا يمكن التوصل إليها في ظل غياب انتخابات تتوفر فيها شروط النزاهة والشفافية. وهذا المرض – مرض الزعامة - يجعل بعض الأحزاب تخرِّب كل محاولات العمل الجماعي، بل وتحاول توظيفه لغايات خاصة. وفي تجربة اللجنة الوطنية للدفاع عن حرية التعبير والإعلام التي أُعلِن عن تأسيسها يوم 10 ديسمبر 2010 خير مثال، فبعد حركية الأيام الأولى تجلى البعد الانعزالي في العمل. وأحسن مثال على ذلك ما رأيناه من ممارسات على هامش الاحتفالات باليوم العالمي لحرية الصحافة (3 ماي)، ففي الوقت الذي نظّم فيه الحزب الديمقراطي التقدمي منفردا يوم 3 ماي 2010 ندوة حول الإعلام، والحال أنه ممثل في اللجنة بأكثر من عضو، نظم حزبا التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات وحركة التجديد وحلفاؤهما في الانتخابات البلدية منفردين ندوة حول الإعلام يوم الأربعاء 5 ماي 2010، وكلا الحزبين لهما تمثيل في اللجنة.
3 - التركيبة العشائرية والعائلية لعديد الأحزاب والمنظمات، مما يحول دون ترسيخ تقاليد ديمقراطية داخل هذه الأحزاب والمنظمات. وتعميق الممارسة الديمقراطية يراعي التوازن بين الأغلبية والأقلية مما يُمكِّن من اكتناز الطاقات وتجنب الانسحابات، التي تمثل نزيفا داخليا يحيل المنظمات والأحزاب إلى قلاع خاوية. ولنا في تجارب عديد أندية السينما التابعة للجامعة التونسية لنوادي السينما أمثلة هامة على ذلك. ولعلّ ما حصل لنادي السينما ابن رشيق في أواخر الثمانينيات كان خير دليل على فشل منهج الاحتكار والتوظيف لهيئات المجتمع المدني، إذ فقد النادي جاذبيته التي جعلت أكثر من 400 طالب وتلميذ يواكبون عروضه مساء كلّ سبت يهجرونه نتيجة الصراع المتخلف على المواقع بين عشيرتي حزب العمال الشيوعي التونسي ومشتقات الوطد[9]، وأصبح الحضور لا يتجاوز عدد أصابع اليدين.
كما إن نظرة بسيطة في قائمة القيادات الفاعلة داخل بعض الأحزاب تؤكد الطبيعة العائلية لتلك الأحزاب. ويحدّثك عديد النشطاء النزهاء داخل بعض منظمات المجتمع المدني المستقلة عن الفرز العائلي الذي يتمّ عندما تقع دعوة هذه المنظمات إلى حضور نشاطات مدفوعة التكاليف من قبل منظمين في أوروبا أو غيرها من دول العالم، فرئيس الجمعية المعنية بالدعوة يمنح الدعوات التي تصله من الخارج إلى أشقائه وزوجاتهم وشقيقاته وأزواجهن وأصهاره وأجوار أصهاره وغيرهم من المقربين.
4 - غياب عنصر الأخلاق في حياة عديد الأحزاب والمنظمات وفي العلاقات فيما بينها، رغم أن السلطة كثيرا ما تُردد ذلك، وهي كلمة حق أريد بها باطلا، إلا أنها حقيقة تترّدد على ألسنة كثير من النشطاء همسا. ويبدو أنه حان الوقت لكشف هذه الممارسات دون الخوف من استغلال السلطة لها لأنّ "من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة". وكثيرا ما يتعرض العاملون مع منظمات تقول عن نفسها أنها مدافعة عن حقوق الإنسان، إلى الاستغلال والمساومة. ويذكر أنه في الانتخابات الأخيرة كلّفت إحدى الناشطات الحقوقية مجموعة من الشباب العاملين في قطاع الإعلام بإنجاز تقرير حول أداء الإعلام خلال الحملة الانتخابية التشريعية والرئاسية لفائدة هيئة مراقبة دولية مقابل 500 دينار للفرد، إلاّ أنه بعد انجاز المهمّة في الزمن المحدّد أصبحت هذه الناشطة تُساوِِم البعض منهم عن المبلغ في محاولة لخصم نصفه بدعوى عدم إتقان العمل. وكتم هؤلاء الضحايا ما حصل لهم لأنه من جهة، لا يوجد مستمع نزيه لهم في صفوف المجتمع المدني، ولأن السلطة، من جهة أخرى، متوثّبة لاستغلال أي معلومات من هذا القبيل، ليس لإرجاع الحقوق إلى أصحابها، بل لاستغلالها ورقة في صراعها الدائر مع الناشطة المذكورة.
5 – غياب المثقف العضوي: تحدّث غرامشي عن فئة المثقفين العضويين المتكونة من مثقفين وسياسيين وطنيين، يشكلون معا القوة الدافعة وراء الكتلة[10]، وهم المثقفون الذين لديهم مهمّة اجتماعية، لذلك استحقوا تسمية مثقفين عضويين لأن كل الناس بالنسبة لغرامشي مثقفون. وغرامشي كان يؤمن بتغيير المجتمع للوصول إلى الحكم لا بتغيير الحكم لإصلاح المجتمع. هل نمتلك في تونس هذا الصنف من النخبة؟ السيد محمود بن رمضان الأستاذ الجامعي في الاقتصاد والقيادي في حركة التجديد (الحزب الشيوعي التونسي سابقا) طرح سؤالا إنكاريا وهو: هل يمكن الحديث عن نخبة اليوم في تونس؟[11] وتحدث عن المجهود المُنَظَمِ الذي بُذل منذ عقدين من قبل السلطة من أجل إسكات النخبة واستقطابها. وبيّن أن الجامعة فقدت اليوم قدرتها على الإشعاع وأن الجامعيين هُمِّشوا.
وكان المفكر هشام جعيط قد تحدث في أواخر الثمانينيات عن غياب المثقف العضوي في تونس. وليس خافيا أنّ الدولة التسلّطيّة قد استقطبت منذ أواخر الثمانينيات العديد من المثقفين الذين كانوا قادة حقوقيين أو أساتذة جامعيين بارزين، مثل محمد الشرفي وعبد الباقي الهرماسي وعياض الودرني ومنصر الرويسي، فأصبحوا بمثابة اليد التي تبطش بها هذه السلطة، واللسان الذي يزين فعلها. ثم تكثّف الاستزلام أو سياسة الزبونية خلال التسعينيات. وتمّ في العديد من الحالات فرض اقتطاع بطاقات انخراط في الحزب الحاكم مقابل الانتداب في الجامعة، وتحوّل مُعظم الجامعيين إلى "أكلة خبز". كما تحول شعراء المدرّجات الجامعية، الذين كانوا يلقون أشعارهم تحت الرايات الحمراء وهتافات الطلبة الداعين إلى ديكتاتورية البروليتاريا إلى موظفين لدى جهاز الدولة، بل وأصبح بعض قادة الجامعة التونسية لنوادي السينما يُنشِّطون برامج في التلفزة الرسمية. وبعد أن كانت كُتُب الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد ممنوعة أصبح هذا الأخير مديرا معيّنا من قبل السلطة لبيت الشعر.
أثر الغياب وأوهام الكتلة التاريخية في تونس
لسنا من المتشائمين. ولا يفرحنا أن تكون البلاد على هذه الحالة من تذرر المعارضة وتشتتها. ولا يريحنا عجزها القاتل. ولكننا قوم نضع أرجلنا على الأرض ونشاهد الواقع بكل آماله وآلامه. ونعتبر أنّ الكتلة التاريخية ليست أمرا واقعا في تونس، بل هي حلم للتحقق، بل ولا وجود لمؤشرات على توفّر شروط إقامتها في المدى المنظور. وما عدا ذلك يبقى أحلام مغتربين إن لم نقل أوهام من نسج الخيال. ونحن متأكدون من حالة العجز الديمقراطي التي تستشري في البلاد. ولكن كما يقول ماو تسي تونغ "مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة". وهذه الخطوة تتطلب مجهودا جبارا يحاول دكّ حصون الانعزالية المُتمترسَة بحواجز المطالب الفئوية والمُتمسكَة بأفكار الماضي، رغم ما تظهره من حلو الحديث عن الديمقراطية. ويجب أن يتأكد الجميع أن سياسة فرق تسد لم تنته مع عزل آخر البايات في تونس، بل هي مستمرّة استمرار إرادة الهيمنة، وتوضع تحت تصرف هذه السياسة خزائن تونس وخيراتها. وإن بناء كتلة تاريخية في تونس يتأكد بإلحاح كتأكُّدِنا من عجزنا عن إحداث أي تغيير منفردين. قال أحد الزعماء الأمريكيين "لي حلم" ونحن نقول لنا حلم بناء هذه الكتلة التاريخية رغم انتفاء أي مؤشرات على توفّر مقدمات لها على أرض الواقع.
(*) كاتب وباحث تونسي
[1] - انظر ما كتبه سالم الأبيض مدرّس علم الاجتماع في المعهد العالي للعلوم الإنسانية - ابن شرف - تونس في كتاب أصدره سنة 2009 تحت عنوان الهوية: الإسلام، العروبة، التونسة ضمن منشورات مركز دراسات الوحدة العربية السنة الماضية عن المؤتمر الرابع للاتحاد العام التونسي للطلبة، إذ أورد أنه تمّ في السريّة في حين لو كلف هذا الباحث نفسه عناء البحث في قسم الدوريات بالمكتبة الوطنية التي لا تبعد سوى مائتي متر عن مركز المعهد الذي يُدرِّس فيه وفتح صحف شهر ديسمبر 1990 لعرف أن ممثلا عن وزارة الشاب والطفولة حضر هذا المؤتمر الذي انعقد بكلية الحقوق بتونس، كما حضره آلاف الطلبة وعديد المدعوين التونسيين والأجانب، ولما بثّ أخطاء فظيعة في كامل الوطن العربي وساهم في تزييف التاريخ.
[2]- عبد الفتاح ماضي ، الكتلة التاريخية من أجل الديمقراطية، ركن المعرفة الجزيرة نت ، جانفي 2010
[3]- صاحب المقال هو الطالب علي فلاح والنشرية هي "الطالب التونسي" 2007
[4]- تصريح سهام بن سدرين عضو المكتب السياسي للتجمع الاشتراكي التقدمي ، جريدة الشروق 16 ماي 1991
[5] انظر ما كتبه محمد الكيلاني الرجل الثاني في الحزب خلال صيف 1991 على أعمدة جريدة الإعلان التي كان يرأس تحريرها عبد العزيز الجريدي صاحب جريدتي "الحدث" و"كل الناس" حاليا.
[6]- مقال عبد الرزاق الهمامي عضو الهيئة التأسيسية لحزب العمل الوطني الديمقراطي المنشور في جريدة الطريق الجديد عدد ديسمبر 2005
[7]- راجع مقال محمد عابد الجابري : بناء الكتلة التاريخية، بأي معنى
[8]- الصباح، 31 مارس 1982
[9]- اختصار لتسمية تيار سياسي يتبنى أطروحات ماركسية هي مزيج من الماوية والستالينية ظهر حوالي سنة 1976 في الجامعة التونسية يسمى الوطنيون الديمقراطيون وانبثقت عنه مجموعات صغيرة أخرى منها وطنيون ديمقراطيون الذين تحولوا إلى تسمية مناضلين وطنيين ديمقراطيين وسط الثمانينات والوطنيون الديمقراطيون بالجامعة الذين ظهروا سنة 1984
[10]- ماضي (عبد الفتاح) الكتلة التاريخية من أجل الديمقراطية مرجع مذكور سابقا
[11]- حوار مع جريدة مواطنون عدد 131 مارس 2010-
موقع أقلام أولين محجوب في تونس
العدد الخامس والعشرون
السنة السابعة/ ماي - جوان 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.