لقد تبين باليقين ان كثيرا من التونسيين ان لم نقل أغلبهم قد انتقدوا وقد عارضوا صيغة اتفاق الحكومة مع اهالي تطاوين واعتبروها دليلا على ضعف الحكومة وتنازلها المشين وانبطاحها الواضح المبين ولا شك ان هؤلاء المعارضين المنتقدين يعتبرون انفسهم في فن السياسة مثلا للعبقرية والنبوغ وانهم قد بلغوا فيها الغاية والمنتهى والقمة وانهم قد اصبحوا فيها كما يقول عامة التونسيين (طز حكمة) فاردت بهذا المقال ان اذكرهم بما فعله بورقيبة منذ سنين وهو عندهم وعندنا بلا شك مثلا للعبقرية و للنبوغ السياسي الذي يجب ان يستفيد منه كبار وصغار السياسيين... فهل يتذكرون وهل يعرفون وهل ينكرون ان بورقيبة الذي بلغ في فن السياسة الغاية والقمة قد تنازل في يوم من الأيام ورفع راية ولواء السلم والسلام في ثورة الخبز التاريخية بعد ان قررت حكومة محمد مزالي في تلك الأيام العصيبة من تاريخ التونسيين رفع سعر الخبزة الى مائة وثمانين بعد ان كانت بثمانين وفي متناول الزوالية والفقراء والمساكين؟ فما كان من هؤلاء الا ان نزلوا الى الشوارع والطرقات منادين وهاتفين (بورقيبة يا حنين والخبزة بثمانين) عندئذ استجاب لهم بورقيبة بعد ان خاف نتائج عواصف وزوابع وتوابع هذه الثورة القوية الشعبية وما كان منه الا ان خرج على التونسيين الثائرين من قصره ذات عشية ليتنازل تنازل أذكياء وحكماء الساسة والكبار اذا تيقنوا من وقوع العاصفة وحدوث الاعصار الذي يسقط الحكومات ويخلي البلاد ويخرب الديار ليقول كلمته المفاجئة التاريخية (نرجعو كيما كنا)... فكانت كلمته هذه كالماء الذي يطفئ النار وعاد الشعب الى هدوئه وسكينته وكان شيئا ما حدث وما كان وما صار... فهل يقول العقلاء ان بورقيبة قد اخطا في هذا التنازل وهذا التراجع وهذا الانحناء وهذا الانكسار امام قوة وامام شدة التيار؟ ام نقول ان بورقيبة حمى بحكمته وبشجاعته منصبه وبلاده من لهيب ومن اتون ومن السنة النار؟ اما اليوم وبعد ان استجابت الحكومة الحالية بطريقتها الهادئة اللينة السلمية التي اختارتها لمطالب اهالي تطاوين فهل من المعقول وهل من المقبول ان نقول انها قد انكسرت شوكتها واهينت كرامتها ام نقول انها قد ضربت عصفورين بحجر واحد صائب متين اولهما انها امنت غضب منطقة تونسية زوالية ومجموعة لا يستهان بها من الثائرين وثانيا انها استرجعت استغلال ثروة طبيعية يحتاج اليها كل التونسيين فيتطاوين وفي غير تطاوين في هذا الظرف العصيب الصعب المبين؟ وهل ستكون الحكومة وهل سيكون الشعب التونسي كله من الخاسرين او من الرابحين اذا بقي جزء من الثروة الطبيعية التونسية في حالة تعطل وتوقف والا يقع استغلاله في اقرب وفي اسرع حين واذا اختارت الحكومة معالجة ملف قضية الكامور بالعنف والشدة وما شابهما من اساليب التنطع والشدة في معالجة الأمور؟ ثم وفي نهاية المطاف الا يستحق اهالي تطاوين شيئا من الرفاهية وبحبوحة العيش بعدما قاسوه تارخيا من صعوبة العيش طوال اعوام وطوال سنين؟ اولم يتوخ بورقيبة اذن منذ سنين ومن بعده الحكومة الحالية سياسة معاوية بن ابي سفيان الذي قال بعد حادثة تاريخية اظهر فيها الشيء الكبير من الحكمة ومن العبقرية السياسية(لو ان بيني وبينهم شعرة ما انقطعت ان هم جذبوها رخوتها وان هم رخوها جذبتها) والتي لخصها المؤخون في السنوات الماضية بقولهم (سياسة شعرة معاوية)؟ ثم وفي نهاية المطاف هل يرى المعارضون والمنتقدون ان اهالي تطاوين قد استاثروا وحدهم بعد هذا الاتفاق او هذا الوفاق مع الحكومة بثروة البلاد التونسية كلها ام اخذوا كما يقول التونسي القديم من الشاة اذنها؟