قرأت يوم 24 نوفمبر 2020 على هذه الصحيفة مقالا كتبه الأستاذ أحمد القديدي عن المغرب العربي، ومشروع اتحاده، والفشل الذي عرفه حتى الآن، محذرا من مغبة صدام قد يصل إليه الأخوين المغرب والجزائر، بسبب الصحراء الغربية وتحركات منظمة البوليساريو، فتذكرت أن الأستاذ القديدي سبق وأن نشر لي مشكورا، في ثمانينات القرن الماضي على صحيفة العمل وهو مديرها آنذاك، سلسلة من ثلاث مقالات عن الموضوع نفسه، وما اشتكيته وندّدت به آنذاك، هو ما يشكوه وينتقده السيد القديدي وكل عاقل اليوم، رغم مرور السنين والعقود، وأعني بالتعبير الشعبي " القادة في واد والشعوب في واد " ولا ولن يلتقيا ما دامت الأنانية، وحب الرئاسة والهيمنة، وأنا الوحيد وليس مثلي أحد، والحقيقة أملكها وحدي، والهروب من الحوار، وباختصار عدم الإيمان كليّة بمشروع الاتحاد ولا بفوائده. لوّح الأستاذ القديدي للمسؤولين بمقارنة بين الزعماء المغاربيين في الأربعينات من القرن الماضي، وبين السادة السائدين اليوم – والفرق كبير – فيقول:" الفرق الشاسع بين زعماء 1947 وقادة 1989 هو أن الشعوب كانت هي التي تحرك الزعامات زمن حركات التحرير ولعل غياب الشعوب بعد الاستقلال من المشاركة الحقيقية هو الذي ترك الأبواب مشرعة للأمزجة والعواطف الشخصية والحسابات السياسوية لتعطل كل طموحات الشعوب للوحدة ودخول التاريخ! " نفس الملاحظة والطلب ناديت بهما قبل أربعة عقود إذ قلت تقريبا، اتركوا الشعوب تتعامل وتتبادل وتنتقل بحرية وبلا حدود ولا قيود، وسوف يبنى الاتحاد عمليا. إن دلّ هذا على شيء فإنما يدلّ على أن المشروع ولد ميّتا، أو هو يحتضر عقودا، وما لم يزل كم هو؟ الله أعلم. نشرت أيضا في مارس/آذار 2010، على مجلة المغرب الموحد، مقالا بعنوان " الاتحاد المغاربي وأروبا " محاولا المقارنة بين المجموعتين، المؤمنة المصممة الساعية، فحققت، وغير المؤمنة، المتقاعسة، المتردّدة أو الرافضة، ففشلت بل فلم تنجز لأن الفشل نتيجة عمل وتحرّك، ومسؤولونا لم يتحرّكوا ولعل منهم من لا يعرف عن المشروع شيئا. بينما في أوربا عملوا بحكمة " من سار على الدرب وصل " فسار وعمل المسؤولون والسّاسة الأوربيون طوال نصف قرن ويزيد فبنوا لبنة لبنة بصبر وتعقل ومثابرة اتحادهم الذي أصبح حقيقة وواقعا وهو يزداد كل يوم رسوخا وثقلا في ميزان الأحداث الدّولية (بضم الدّال) وتأمينا لمزيد التقدم والازدهار للمواطنين الأوربيين. كل هذا رغم انعدام العناصر الأساسيّة لأيّة وحدة أو اتحاد. فلا لغة واحدة، ولا عقيدة واحدة، ولا دينا واحدا، ولا مصالح واحدة، بالإضافة إلى حدود طبيعيّة في بعض المناطق حاجزة، وتفاوت اجتماعي واقتصادي، وكما لو كان هذا غير كاف، فهناك ما هو أكثر وقعا وعرقلة لأي اتحاد أو اتفاق ونعني التأريخ المليء بالحروب والمشاحنات بين مختلف الأقطار التي اتحدت، خاصّة منها الدولتان اللتان قامتا بالمبادرة الأولى وهما ألمانيا وفرنسا. لكنّ الحكمة والحاجة والمصلحة والظروف أملت على ذوي الشأن بوجوب إقامة اتحاد وتكتل لأنهم تيقنوا، وهم مصيبون في يقينهم، أن لا حياة في الانفرادية، ولا عيش في العزلة، ولا نصيب للضعيف، ولا مكان لغير المجموعات الكبيرة والاتحادات القويّة. وهذا ليس بالنسبة للدّول والشعوب فقط، بل تسرّب إلى معظم المجالات الحياتية، فلا أدلّ على ذلك ما يشاهد في القطاع الاقتصادي من تكتل الشركات واتحاد المصارف، ودمج المتاجر فيما أصبح يدعى بالمساحات الكبيرة أو الواسعة. اهتم الاتحاد الأوربي ويهتم بالمغرب العربي ويراه ويحبذ أن يكون وحدة تسهيلا لمبادلاته ومعاملاته معه. فقد وضع اتفاقات برشلونة، ومشروع الاتحاد المتوسطي والاتحاد المغاربي والصحراء الغربية، وكلها مواضيع ذات اهتمام كبير ضمن السياسة الخارجية الأوربية، لأنه، كما صرّح لنا يوما أحد كبار مسؤولي السياسة الخارجية فأكد كم من مرّة، اهتمام حكومته بالاتحاد المغاربي لأن "المنطقة مهمة، ونحن ملتزمون بدفع ومساندة الاتحاد لأننا نعتبره ضمان استقرار وتنمية. فنحن نعتقد أنه يجب التقدّم في تشييد الاتحاد المغاربي خاصّة لمجابهة التحدّيات الجهوية، وليس أقل هذه التحديات اعتبارا مسألة الأمن، أمن الضفتين المتوقف أحدهما على الآخر. فالتحديات كثيرة منها الأمن، كما سلف، ومنها الهجرة العشوائية أو غير القانونية، والتطور الاقتصادي، وسياسة التشغيل، وهي كلها ظواهر تمسّ بالأمن المشترك. إن كل ما يجري بالمتوسّط هو ثنائي التأثير، فلا معزل لجانب عن الآخر. أما داخل الإطار الأوربي، فمعظم العلاقات والمعاملات تجري الآن على مستوى ثنائي، لكننا نريد العمل على تحقيق الاتحاد حتى تصبح المعاملات جماعية بدل أن تكون ثنائية. مثال ذلك اجتماع لشبونة عام 2007 ولقاءات الرباط سنة 2008 ولذا فإننا سوف لا نحصر نشاطنا داخل الاتحاد الأوربي فحسب، بل سنوسّعه إلى الخارج ونجعل من الاتحاد محاورا ذا صوت واحد، وحبذا لو كان حواره مع الجنوب يكون هو الاخر ذا صوت واحد." إن اتحاد دول المغرب العربي أو الشمال الإفريقي، لم يعد أملا وطموحا فقط، بل هو اليوم ضرورة ملحة تفرضها الأوضاع الإقليمية والدُولية، وتنادي بها الحاجة الملحة التي تواجهها أقطار الشمال الإفريقي، حاجة بل حاجات متعدّدة أساسية، يتوقف عليها كل تقدّم اقتصادي ورفاه اجتماعي. إن ما يدعو إلى الأسف والتعجب هو أن أقطارنا وشعوبنا كانت، والاستعمار يثقل كواهلنا، أكثر التحاما، وأوثق صلة، وأوسع تبادلات والاتصالات، بينما اليوم أصبح الذي كان معتبرا مواطنا أو يكاد، أصبح أجنبيا، يُعتبر بعض الأجانب الأوربيين أقرب منه وأكثر اندماجا. إن مثل هذا الوضع وهذه التصرفات ممّا يبعث على الشك والتساؤل مثل " هل نحن مستقلون "؟ " لماذا لم يتمّ التعريب "؟ " ما الذي يحول دون إقامة الاتحاد "؟ إن الإجابة عن السؤال الأول تحتاج أولا إلى تفسير الاستقلال وشرح معانيه ومفاهيمه التي لا تقتصر على إبدال حاكم بآخر محلي وابن البلد. أما السؤال الثاني فللإجابة عنه لابد من الوصول إلى المحفوظات السرية (الأرشيف) بلغة السادة، كي نجد الجواب الصادق. أما السؤال الثالث فقد أجاب عنه الأستاذ القديدي قبل طرحه وهو غياب الشعوب، أو قل تهميش الشعوب وإبعادها عن واجبها، لأن فيه فرض وإجبار لسادة، يرى كل منهم نفسه وحيد عصره لا يساويه أحد. فالسيادة له وهو لها، بينما في الاتحاد أربعة أو خمسة آخرون ينافسون. هنا أيضا أعود إلى التجربة الأوربية. كان الجنرال ديغول من باعثيها وبُناتها، وهو المعروف بعزة النفس والتكبر وتجسيم بلاده في شخصه. رغم هذا، غلب التعقل والإخلاص والضرورة، فمد يده، وحاور، وناقش وبهذا لا مفر من الوصول إلى نتيجة، وصلوها وشرع في البناء والتشييد. لم يكن سهلا؟ لا بل من أصعب ما يكون، وكان الطريق مليئا بالأشواك والعراقيل. لكن من سار على الدرب وصل، والإرادة والمثابرة يُبلغن العامل إلى أعلى المرتبات. الغريب في كل هذا هو أن القادة بنوا الاتحاد والشعوب غير مؤمنة أو غير متحمسة إلا من ندر منها. لكن، ما أن نفذت الخطوات الأولى لمس كل أوربي الفائدة والمردود، فأيد واستغل واستفاد. كأني بأولي الأمر في مغربنا نسوا ما لقنوه في دور الطفولة والمدارس من أن " في الاتحاد قوّة " و" أن يد الله مع الجماعة " وأن " يد واحدة لا تصفق " وقول الله جل جلاله: " وتعاونوا على البرّ والتقوى ". فأي برّ وأيّ تقوى أفضل وأشمل وأنفع من ضمان الأمن، والاستقرار، والرفاه، والعمل، والتقدم لملايين المواطنين؟ كل هذا وأكثر منه يأتي عبر اتحاد مغاربي مشيد على قواعد عقلانية عملية، يسهم فيه وفي بنائه كل كبير وصغير، لأنه من الجميع وللجميع. أما إن عمت الأبصار والبصائر عن هذا، فلتفتح الحدود، ولتُزل العراقيل، والأداءات الجمركية على المنتوج الوطني، فسيبنى الاتحاد عمليا فعليا على أرض الواقع والتنفيذ. لنا فيما يجري، أو كان يجري، بين ليبيا والجنوب التونسي خير دليل وبرهان، على أن الشعوب تيار بنّاء مُشيِّد، لما فيه حاجاتها ومصالحها لأن " أهل مكة أدرى بشعابها." مدريد في 30-11-2020