قلت سابقا أن الشعب الكريم في تونس لم ينتظر من الثورة التي انطلقت في بلده أن تحقق له المعجزات فتفجّر آبار البترول وتكشف مناجم الذهب وتحوّله الى واحد من الشعوب الغنية في العالم. ومع ذلك فلقد أكدت مرارا بأن هذا الشعب قد انتظر الكثير من ثورته.. التي اعتبرها النقطة الاساسية في الفصل في حياته بين مرحلتين تتميز أولاها بالتذبذب وبالتهميش وتتميز الثانية باستعادته لكرامته المهدورة ولحقه في العيش بسلام في محيط آمن وأمين. هذه المسألة.. قد مثلت نقطة الخلاف الاولى بيننا في فترة ما بعد الثورة إذ أساء بعضنا فهمها وتصوّروا أن للثورة عصاها السحرية القادرة على تغيير كل شيء في رمشة عين كما أساءت حتى الهياكل الرسمية فهمها كذلك فتصوّرت بدورها أن الاستجابة لطلبات الناس بطريقة عشوائية يمثل أداة لكسب ودّهم ورضاهم مما أوقعها في فخ الوعود الكاذبة ومما أدخل اللخبطة على سير عملها فاختلطت عليها السبل وضاع بعض الأهم في خلال حرصها على تحقيق المهمّ والاكتفاء به. في هذا الاطار مازالت بعض أوجه حياتنا لمرحلة ما بعد الثورة تعاني من الانفلاتات ومازالت بعض الحلقات الاساسية غائبة عنها مما أوقعنا بطمّ طميمنا في خندق الشك ومما قد يوجب علينا مراجعة بعض طرق تصرفنا حتى نتمكن من إصلاح ما فسد منها. وإذ يبدو ذلك واضحا من خلال آراء الناس في مردود حكومتهم وعموما فيما تحقق لهم من خلال ثورتهم والتي يدّعون أنها لم تمكنهم من كل ما كانوا يرغبون فيه فإنه قد يتجلّى أكثر عند محاولتنا التوقف على بعض ما كان يجب علينا فعله لكننا قد قصرنا فيه بل إننا قد نكون تجاهلناه بالجملة وبالتفصيل رغم علمنا بقيمته ورغم تأكدنا منها. وأطرح في هذا الشأن سؤالا يتداول هذه الايام بقوة وبشدّة بين عامة الناس والذين يتصوّرون أن هياكلنا الرسمية قد أحجمت أو ربما قد تقاعست عن طرحه رغم أنها قد كانت مطالبة بذلك. السؤال يقول: من أين لك هذا؟ والشعب الكريم قد كان يأمل في تكفل أجهزتنا الرسمية بوضع الاسس اللازمة من أجل حسن طرح هذا السؤال والبحث من خلاله على بعض أوجه الخلل التي أضرت بالبلاد والعباد في عهد «الزعبع»! وما يراه الناس في هذا نلخصه فيما يلي: منذ بداية الثورة وحديثنا عن التجاوزات وعن السرقات مركز بصفة كلية على جماعة الزعبع وعلى أصهاره ومقربيه والذين نهبوا من خيرات هذا البلد ما طاب لهم ثم غادروه للاستقرار بغيره وللتنعم بما كانوا قد سرقوه منا ومنها. أغلب الناس يقولون في هذا الخصوص أن هذه المسألة عرفناها وحفظناها عن ظهر قلب ولم تعد محاولات تذكيرنا بها ضمن بعض وسائل اعلامنا المرئية خاصة تمثل عندنا اكتشافا أو حتى دليل نصر لأجهزتنا الحكومية والتي تسوقها الينا في إطار حرصها على تأكيد جديتها في التعامل معنا ومع الواقع أو ربّما في إطار عزمها على تمكيننا من بعض حقوقنا المسلوبة أو حتى على ادعائها بالعزم على ذلك خاصة وهي تعلم ونحن نعلم معها أن مسألة استرجاع الاموال والخيرات المسلوبة والمهرّبة الى خارج الوطن لا يمكن تحقيقها بواسطة النوايا الحسنة فقط بل إن ذلك يستوجب عليها القيام بإجراءات صارمة وقانونية لعلها لم تتكفل بانجازها الى غاية الساعة ولعلها قد فشلت في القيام ببعضها أو حتى في النجاح فيه بدليل عجزها والى غاية اليوم عن استرجاع فلس واحد من تلك الاموال وبدليل نجاح هؤلاء السراق في الاحتفاظ بما نهبوه بل ان من بينهم من بدأ يستثمر أمواله ومنهم من بدأ يفعل ذلك بصفة قانونية المقصود منها طمأنة الشعب الكريم فلقد أصبح مفعولها عكسيا.. وتكاثرت اثاراتها مما حولها الى أدوات لمزيد تهييج الناس. والحقيقة أن الواحد لا يمكن أن ينكر جسامة ما أقدم عليه هؤلاء وأقصد الزعبع وجماعته وكل أفراد عائلته وأصهاره والذين أكلوا الاخضر واليابس وفعلوا بالبلاد ما يفعله الجراد فلم يسلم من شرهم أحد إلا أن حديثنا عن الذين أذنبوا في حق هذا الوطن والذين استباحوا خيره لا يمكنه أن يتوقف عند هؤلاء.. وهؤلاء فقط. أقول هذا وأنقله عن الناس والذين يتصوّرون بل يؤكدون بأن حلقات الفساد والاستغلال قد تضاعفت وتنامت في ربوع تونس في فترة حكم الزعبع.. وان عدد الذين استباحوا لأنفسهم حتى نهب خيرات البلد كبير وهو يتجاوز في كل الحالات عدد الاقارب والاصهار. الذين يؤكدون هذه المسألة يتساءلون عن سرّ احجام سلطنا المسؤولة عن محاسبة هؤلاء وعن سر صمتها عنهم والمقصود من طرفهم هم الجماعة الذين سهلوا مهمات الطرابلسية وأفراد العائلة.. وتعاونوا وتعاملوا معهم وبواسطتهم وبدعم منهم وبمشاركة لهم حتى أنهم قد أكلوا بدوره الاخضر واليابس وحتى أنهم قد نجحوا في تكوين امبراطوريات في ميادينهم وحتى أن بعضهم قد تحولوا الى مليارديرات بعد أن نهبوا وسرقوا وخالفوا القوانين وتنعموا بأكبر الصفقات الوهمية وبعد أن امتلكوا القدرة على نيل كل شيء وعلى التمتع بكل الامتيازات. أصحاب هذه الآراء وأنا واحد منهم يتساءلون بالقول: لماذا لم تعمد هياكلنا المعنية الى تركيز وبعث هيكل قضائي تعهد اليه مهمة محاسبة هؤلاء.. ولماذا لا يكون هذا الهيكل خاصا.. ومتخصصا في ذلك فينطلق في عمله بطرح السؤال اللازم والقائل: من أين لك هذا؟.. والتوجه به لكل من جمع الثروات الطائلة في عهد الزعبع بطرق ملتوية وبأسلوب استغلالي بحت. وإذ يعترف اصحاب هذا التوجه بما تبذله لجنة مقاومة الفساد في هذا الاتجاه فإنهم يعتقدون بأن هذه اللجنة التي تعمل بمقتضى ما يصلها من الناس من عرائض لا يمكنها أن تحقق المطلوب باعتبارها قد لا تملك الصلاحيات اللازمة لذلك.. وعليه.. فلقد تصور الناس بأن مسألة بعث هيكل قضائي رسمي للقيام بهذه المهمة يعمل مباشرة تحت اشراف وزارة العدل قد يساعد على الاسراع بإنجازها وقد يحسن طرح هذا السؤال وقد يتوصل للإجابة عنه في ظرف وجيز وبدون تعطيلات ولا تعقيدات. عبدكم المتواضع وإذ أضم صوتي لأصوات المطالبين بهذا وإذ أدعي أن تحقيقه سوف يمثل خطوة أساسية نقطعها في سبيل تهدئة الخواطر وفي طريق استعادتنا للبعض من حقوقنا المسلوبة ولعله وهذا الأهم سوف يمثل اداة مثالية لحسن محاسبة السراق والمذنبين. قلت إذ أساند مثل الكثيرين من أمثالي هذا التوجه فإن هذا لا يعني تمسكي أو تمسك أمثالي بالتفرغ لهذه المحاسبة وبممارستها على حساب الأهم وبطريقة التشفي والتي ينادي بها البعض ويصرّون على توخّيها. ذلك أن ما ينادي به اليوم بعضنا والذين يلحون من خلاله على ضرورة فتح كل الملفات في نفس الوقت وعلى ضرورة البث عن كل الثغرات السابقة قد يمثل في نظرنا عملا يستوجب الكثير من التثبت ومن التريّث حتى لا يلهينا فعله عن الأهم وحتى لا يمثل ذلك جرما جديدا نقترفه اليوم في حق الغير.. دون تروّ. ماذا يعني هذا.. وألا يمكنه أن يتناقض مع هذه الدعوة التي أوجهها باسم الشعب الكريم لهياكلنا المعنية قصد مطالبتها بتركيز جهاز قضائي يتخصص في محاسبة السراق وينطلق في ذلك معهم بطرح السؤال اللازم عليهم والذي يقول: من أين لك هذا؟ الحقيقة مرّة أخرى أن المسألة قد تبدو واضحة وقد لا يمكنها أن تثير التناقض أو الاختلاف ذلك أن ما يحصل اليوم من خلال عمليات المحاسبة والذي يتركز خاصة على بعض افراد عائلات بن علي وأصهاره وحتى وإن جاء محققا لبعض رغبات الناس ولبعض طلباتهم فإنه لا يحققها كلها خاصة وأنه يتم بأسلوب تشوبه العديد من النقائص وحتى من التناقضات مما قد يحوّله الى عمل للتشفّي.. وخاصة وأن الشعب الكريم مازال يتعايش مع أعداد مهولة من الجماعة الذين نهبوا ثرواته في عهد الطاغية وحولوها بفضل ما كانوا ينعمون به من حماية الى ثروات خاصة بهم ومع ذلك فها أنهم يواصلون اليوم العيش هانئين مطمئنين وغير خاضعين حتى لأبسط عملية محاسبة وليسوا خائفين حتى من مجرد حصولها.. أما لماذا يطالب الناس بأن تكون عمليات محاسبة هؤلاء عاجلة ولماذا يلحون على تنفيذها بطريقة حضارية وبأسلوب بعيد عن التشفي وخال من كل أوجه الظلم.. وباقتصارها على من أذنبوا فعلا في حق هذا الوطن وعلى فكرة فإن عددهم كبير والناس يعرفونهم فردا فردا.. فذلك لأن التاريخ قد أثبت لنا بأن بعض الثروات قد فشلت ولم تحقق النجاح بعد أن تحولت الى أدوات خاصة بمحاسبة السابقين ولم تعمل على التخطيط للمستقبل وبأن بعضها قد فعلت العكس فتغاضت عن مسألة المحاسبة مما أوقعها في براثن السابقين فأحسنوا استغلالها للركوب عليها ولمعاودة التربع على الناس بواسطتها مجددا.. المهم إذن أن نحسن التعامل مع هذه المسألة فلا نحوّلها الى أداة للتشفي وللظلم ولا نجعل منها عملا مؤجلا اذ قد لا يساعدنا اليوم التغاضي عنه في الخروج من عنق الزجاجة الذي نقبع بداخله والاهم أن نحسن وبواسطة طرح السؤال القائل: من أين لك هذا.. تحرير هذا البلد ممن أكلوا خيراته فلا نترك لهم المجال لمواصلة فعل ذلك معنا ومعه. وحتى إذا شكك بعض القائمين علينا في جدوى هذه المسألة.. وحتى اذا تصوّروا بأن السير فيها قد يذهب بنا بعيدا فيدخلنا في حالة من الفوضى الجديدة وربما قد يجبرنا على الزجّ بالنسبة الأهم من الناس في السجون مما قد يتنافى مع بعض أهداف وخصوصيات هذه الثورة.. التي انطلقت في ربوعنا. هؤلاء وأقصد الذين يشككون في هذه المسألة.. من القائمين علينا خاصة وعددهم كبير كذلك نقترح عليهم مسك العصى من الوسط ونأمل في قدرتهم على الاقل في حسن محاسبة السراق حتى ولو كان ذلك بالاعتماد على الطريقة السوزانية المصرية.. يعني أن يتمكنوا من وضع الحد اللازم لهؤلاء وأن ينجحوا في محاسبتهم من أجل إجبارهم على ارجاع ما نهبوه منا ويا ناس ما كان باس.. أعتقد أن هذه الطريقة سوف تساعدنا على استرجاع الجانب الأهم من ثرواتنا المهدورة وسوف لن نجعل من طريقتنا في المحاسبة أسلوبا من أساليب التفشي وممارسة للضغينة. خاصة إذا فعلناها مع كل الذين يحق لنا التوجه لهم بالسؤال القائل: من أين لك هذا.. والذين يواصلون اليوم العيش بيننا مكرمين معززين ولا أقصد فقط من هؤلاء جماعة الطرابلسية وأفراد تلك العائلة طبعا لأن هؤلاء نعرفهم وعرفناهم اما البقية فمازلنا ننتظر .. واللي يستنّى.. خير من اللي يتمنى! طبعا.. وآمل أن يكون كلامي مفهوما.