مما لا شك فيه ومما هو واضح ثابت مؤكد مبين ان الناس منذ ملايين ومنذ آلاف السنين يستقبلون الأعوام المتعاقبة والمتلاحقة وهم مختلفون ومتفرقون بين متفائلين ومتشائمين وكل يدعي انه على حق وانه على صواب وانه على النهج الثابت المتين ولقد كتب الأديب والمفكر والشاعر عباس محمود العقاد رحمه الله وطيب ثراه في هذا الصدد مقالا منذ ما يزيد عن نصف قرن من السنين والناس يستقبلون سنة جديدة من السنوات تحت عنوان (تقويمات جديدة للبيع) وقد انتصر فيه لانصار التفاؤل ورد وسخط فيه على انصار التشاؤم وتوقع وانتظار الألم والعذاب المر بحجج لا تصدر الا عن رجل فكرقد ملك زمام التعبير وبراعة القلم فقد قال ويا لروعة ويا لصدق ما قال (يقال ان التشاؤم آفة من آفات القرن التاسع عشر في اوائله على التخصيص لانها كانت حقبة مشؤومة متلاحقة الحروب والثورات فهل اصاب نقاد المذاهب الفكرية في هذا التعليل و هذا التحليل؟ وهل من الحق ان كل حقبة تكثر فيها الحروب والثورات تجنح بكتابها وحكمائها الى التشاؤم والسخط على الحياة؟ اننا لا نخالهم مصيبين فان عصور الحروب والثورات كثيرة في التاريخ القديم وفي التاريخ الحديث ولم تعرف كلها بفلسفة التشاؤم او بالسخط على الدنيا بل لعلها اخرجت في عالم الأدب اجمل اثار الفن والأدب واقوى دلائل الثقة والايمان بجدوى الحياة والذي نراه ان الانسان لا يتشاءم اذا عرف ما يعتقد وعرف مع الاعتقاد ما ينبغي ان يعمل ولهذا يجاهد دعاة الأديان ومذاهب الاصلاح ويتعرضون للموت في الثورات والفتن وهم غير متشائمين ولا ساخطين وقد يتشاءم الناس في ابان السلم اذا رانت الحيرة عليهم فلم يعرفوا ما يعتقدون ولم يعرفوا وجهتهم الى العمل او وجهتهم الى الكفاح...شر من فقدان الحياة ان نفقد الثقة في الحياة فلا تشاؤم في عصور الحروب لانها وان كانت حروبا يهلك فيها الألوف وقلما تخلو من التشاؤم عصور السلم اذا امن الناس على حياتهم ولم يعلموا لها وجهة تتجه اليها كن في امان بل كن في ايمان فمن امن وهولا يفقه للحياة معنى فهو في زمرة المتشائمين ومن امن بمعنى الحياة فهو متفائل وان كان على خطر بل لعله يقدم على الخطر لانه مطمئن الى الايمان ونحن على ابواب سنة جديدة فان كانت خيرا فلتكن سنة حرب او سلام ولتكن عل الحالتين سنة ايمان) (بين الكتب والناس ص 213 دار الفكر القاهرة 1978) ولكم صدق والله العقاد رحمه الله وطيب ثراه فاننا نرى الكسالى الذين ليس لهم عقيدة صافية نقية ولا عمل سليم جدي وناجح ومفيد هم اكثر بل هم كل المتشائمين الذين يبحثون ويتسابقون كل سنة جديدة وهم عابسون مضطربون خائفون الى العرافين والمتكهنين والمنجمين ليعرفوا هل سيكونون في سنتهم الجديدة من الناجحين او من الفاشلين وهم يجهلون في كل ذلك انهم حقا مخطئون لان تصدقيهم للمتكهنين لهم بالنجاح او بالفشل سيجعلهم حتما يتركون او يتكاسلون في العمل لانهم عرفوا المغيب والمخفي عنهم المكتوب على الجبين ومن عرف ما كتب له هل يستطيع او هل ينشط ليعمل بالشمال او باليمين؟؟ ولعل هذا ما جعل الاسلام يحارب التنجيم والكهانة و(الدقازة) ويدعو في المقابل لذلك الى العمل الجدي والتفاؤل رافعا شعار(من جد وجد ومن زرع حصد) وما احسن ان نتذكر جميعا وان نمعن النظر في تلك الحكمة القديمة العظيمة التي تقول لكافة البشر(حلو ومر حتى ينقضي العمر) فالمتفائلون هم الذين امنوا بهذا الحكم الرباني وفهموا هذا القضاء وهذا القدر وهذا عندهم مبعث الجد والاجتهاد والطمانينة ومصدراساسي في تحقيق معنى ومفهوم ونعمة السعادة في كل يوم وفي كل شهر وفي كل سنة جديدة ...اما المتشائمون فهم يريدون تكسير وتكذيب هذه القاعدة بانكار ونفي الجانب الحلو الوردي النير الجميل في هذه الحياة واعتبارها كابوسا خانقا او بمثابة الحمل التافه الثقيل ولعل هذا ما جعل العقاد يعتبر عمق الايمان هو وقود التفاؤل في احلك الظروف وفي اتعس الأوقات وان ضعف الايمان هو في كل الحالات سبب التشاؤم والشقاء ومختلف انواع الأمراض والاضطرابات... فهنيئا لكل المتفائلين بهذا الشعور وهذا المنهج الحياتي السليم واننا لندعو الله سبحانه وتعالى صادقين ان يمن بالشفاء النفسي العاجل على اخواننا المتشائمين المساكين في مفتتح هذه السنة الادارية الجديدة القادمة وان يجعلها علينا جميعا مباركة سعيدة سالمة غانمة ورغم كل تلك التكهنات الجرداء المظلمة القاحلة التي يطل بها علينا كل عام جديد الفلكيون والمنجمون وهم باسمون يضحكون فما لنا الا ان ندعو وان نقول ألطف بنا يا لطيف ويا من امرك بين الكاف والنون فانت وحدك القادر على حفظنا ونجاتنا من كل خطب ومن كل كرب مفزع مخيف وليقل هؤلاء الكهنة وهؤلاء المنجمون وهؤلاء العرافون ما يشاؤون فلن يغير ذلك من شعورنا بالتفاؤل والخير القريب في قليل ولا في كثير ما دمنا نقرا بتدبر وعمق تفكير قول ربنا تعالى الذي يقول للشيء كن فيكون ( قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون)، كما نحمد الله تعالى العلي الكبير انه مازال في بلادنا من يرددون بكرة واصيلا ذلك القول الجميل الشهير (سبقوا الخير تلقوا الخير)؟؟