عندما أقول المعلم، قلت المدرس، قلت الأستاذ، قلت المربي، وعنيت بقولي عهدا وفترة تمتد من بداية انتسابي لدور التعليم في منتصف ثلاثينات القرن العشرين، إلى منتصف خمسيناته، عندما هاجرت فابتعدت عن لمس الواقع في وطننا العزيز. فمن ذلك التاريخ إلى يوم الناس هذا، لا أعرف عن التعليم والمعلمين إلا ما يقال أو يكتب، وليس خفيا ما في ذلك من تشاؤم ونقد وتشكٍ، يوجب على من يريد الحكم أو إبداء رأي، أن يتحرّى ويحتاط لأن الواقع، بأسبابه ودواعيه، كثيرا ما يختلف عمّا يقال أو يُفترى. لكل هذا وغيره، سأركز فيما يلي، على العهد الذي حدّدته لأني عشته، واعتبر نفسي ثمرة من ثماره. تعرّضت أكثر من مرّة لهذا الموضوع، اعترافا لمواطنين قاموا بما لم يقم به غيرهم خدمة للوطن، ولا ذكر لهم ولا اعتراف، كأن خدمة الأوطان موقوفة على السياسيّين وحدهم، فيُكرّمون ويُمجّدون. بينما عمل السياسيين موجّه ومرتكز على الشعب، وقيمة وفاعلية هذا الأخير تكمن في نسبة المواطنين الصالحين فيه، والمعلم المدرّس الأستاذ المربّي هو، إن كان وطنيا مخلصا، مُكوِّن وبانٍ ومشيّد الصرح الحصين من المواطنين الصالحين، العارفين، المؤمنين، اليقظين، المستعدين لكل عمل وتضحية، غير منتظرين جزاء ولا شكورا. إن ما لم أفهمه أنا نفسي، هو أني كلما دار الحديث أو وجبت الكتابة عن هذا الموضوع، إلا وأخذت الأستاذ عثمان الكعاك مثالا أو رمزا لما أريد تجسيمه في عقل السامع أو القارئ. التفسير الوحيد الذي قد يكون معقولا هو أنه، بين الذين تلقيت عنهم من العلم والمعرفة ما شاء الله، والانغماس في فهم الوطنية الحقة، والعمل بموجبها بلا تطرف ولا حماس ثائر، لا داعي له ولا موجب، الوحيد من استمرت علاقتي به ومصادقته خارج فصول التعليم، بعد أن كبرت ودخلت معترك الحياة، وإلى أن وافاه الأجل، أو لأنه بين أساتذتي ومعلميَّ، هو أكثرهم انتاجا خارج المعاهد بكتبه ومقالاته ومحاضراته. أيا كان السبب فهو جدير بتمثيل كل المعلمين المربين الذين تحدّوا، رغم الظروف وأخطارها، وضيق الوقت المخصص لهم وللغة العربية وما إليها، فأدوا مهمة كبرى وواجبا كان لديهم مقدّسا، وهو تكوين المواطن الصالح وتزويده بوطنية متعقلة، وبما يحتاجه لخدمة نفسه وذويه ووطنه، بإخلاص وتفانٍ وتبصّر. قد يكون من الضروري أن أعرّف الوطنية التي أعنيها أولا، لأننا إن بحثنا عن ذلك في القواميس وجدنا " أنها حالة نفسيّة يكون فيها أسمى شعور المرء وإخلاصه، للوطن الذي ينسب إليه، ومن ثَمَّ فهي التعلق بهذا الوطن والرغبة في خدمته، والتضحية من أجله." وخدمة الوطن، كما لا يخفى على أحد، تختلف باختلاف الأزمنة والظروف والأشخاص والإمكانات. فلئن وجب الكفاح السياسي حينا، فقد يترك مكانه للكفاح المسلح حينا آخر، ثمّ تزول كل المعطيات التي فرضت هذا أو ذاك من أنواع الكفاح، لتأتي معطيات أخرى فتفرض النضال والكفاح من أجل بناء صرح من الاقتصاد متين. لكل زمن رجاله، كما أن لكل لون من ألوان الكفاح في سبيل الوطن وخدمته، رجاله أيضا، إلا أن العمل من أجل الوطن يحتاج دائما، وفي كلّ الأزمنة والظروف، وبالنسبة لكل وجميع الأشخاص وما لديهم من إمكانات، يحتاج إلى ما أستطيع تسميته بالشخصية الذاتية. وهذه الشخصية هي أن يكون المرء أو لا يكون. وبما أن المرء عنصر أو عضو من شعب، فمن أمّة، فقد أصبحت الشخصية بالنسبة للشعب أو للأمة، هي أن تكون أو لا تكون. يؤدي هذا حتما إلى وجوب الكينونة، والبحث عن مقوّماتها، فنصل هكذا إلى النتيجة التالية وهي " أكون أو لا أكون." وبما أنه يجب أن أكون، فلا بد من معرفة من أنا، وإذا عرفت من أنا آمنت بوجودي وتخلصت من كل مركب، وهذا التخلص مع ذلك الإيمان، يعطياني القوّة للعمل والحركة، وإذا عملت وتحرّكت فأنا حيّ، وكلّ حيّ مؤمن بنفسه خليق بالاحترام ويستحق ما خصّ به الرّحمن بني آدم من كرامة وحريّة. فكل وطن آمن أبناؤه بوجوب حياته، وحياتهم معه لأنهم خليقون بتلك الحياة، وهم خليقون بها لأنهم أحفاد حضارة أو حضارات أعطت للدنيا وللحياة ثمرات هي دعاماتها وقوامها، لابد لهذا الوطن أن يحيى ويبقى كريما مصانا. هذا هو ما آمن به معلمونا ومربونا، فكرسوا مجهوداتهم المهنية، كي لا أقول حياتهم، لغرس هذه المفاهيم في نفوس كل الذين تتلمذوا عليهم، فكانوا، بما علموه ولقنوه لطلبتهم، المعول الهدّام لكل ما من شأنه أن يمسّ من هذا الإيمان، أو يبعث الشك في النفوس بخصوص أصالة وطنها وشعبها، وقديم عريق حضارتها وثقافتها. يقول الأستاذ الكعاك بهذا الصدد:" الحضارة أصل متأصل فيبنا، وبخاصة حضارة البحر الأبيض المتوسط، إذ نحن أصحاب قسط كامل فيها." فهذه الوطنية إذن هي عقلانية علمية حضارية مركزة. تفرض هذه الوطنية، وهي قبل كل شيء المحافظة على الوحدة القومية، تفرض على المعلمين المربين الذين جسمتهم في عثمان الكعاك، إحباط كل دعاوي التفرقة، أو بث الشكوك في صحة امتلاكنا لحضارات عظيمة، فتصدوا بثبات وسكون ومثابرة، كلٌّ في مجاله، فغرسوا في النشء ما عجز المستعمر وغيره، بكل ما لهم من وسائل في زعزعة ما غرسه المربون. لعل جيل البوم لا يعرف أن اللغة العربية كانت "لغة ثانية" في المدارس الرسمية، خاصة في الابتدائية منها التي كانت تسمى "مدارس فرنسية عربية"، وكان يخصص لها يوميا ساعة واحدة فقط. رغم هذا استطاع المعلمون المربون، المسلحون بإيمانهم، بوطنيتهم، بروح المقاومة والتصدي، لفسخ الهوية ومحو المميزات، أن يتحدّوا القوانين والرقابة، وضمن تلك الساعة الوحيدة، درّسوا الدين وواجباته، واللغة بنحوها وصرفها، وبثوا مباشرة، وعن طريق المحفوظات والشعر والأناشيد فشرحها وتفسيرها، روح ونفسية وثقافة المواطن الصالح، المؤمن بدينه، المحب لوطنه، وأهله أي شعبه، المستعد لخدمة البلاد وسكانها، لأنه يؤمن بأن خدمة الوطن ككل، فيها مصلحة الذي يخدم وكل من حوله. أما ما تميّز به الأستاذ الكعاك، بحكم اختصاصه، فهو أولا تفنيد ما يدعيه المستعمر وأتباعه، فكان المعول الهدام لكل ما من شأنه أن يمسّ بذلك الإيمان الوطني، أو يبعث الشك في النفوس بخصوص أصالة وقِدم وعميق حضارتها. فعندما يقول لوسيان سان أنه بإصلاحاته أعطى تونس أول دستور في تاريخها، يحبط أستاذنا دعواه ويذكره ويعلمنا بأن أول دستور عرفته الإنسانية هو دستور تونسي يسمّى " حيروزيا " وقد وضع في العهد القرطاجي. كذلك الشأن عندما تأسست البلديات وادُّعِي بأنه درس لنا لم نكن نعلمه، جاء صوت الكعاك يفند ويقول:" لم يؤتونا بجديد، بل أعادوا لنا ما أخذوه عنا. فالمجالس البلدية المنتخبة مأخوذة عن النظام القرطاجي البونيقي." لكن اللطيف فيما علمنا الكعاك، هو تفسيره لما نسميه تونس اليوم، إذ هي لديه أشمل، فهي تونس سواء في ذلك قرطاجية كانت أو رومانية أو غيرهما. فهي جزء متكامل في جميع العصور، وكل ما حدث أو وقع في تونس، وكل ما أنتجته تونس في أي عصر من العصور، هو تونسي. فمدينة دقه مثلا هي لدى مربينا المؤرخ الكعاك تونسية شيدت في عهد إقامة الرومان بتونس، ويزيد إثبات ذلك باسمي المهندسين الأخوين المرسومين على بابين من أبوابها وهما من طرابلس. مفهوم منطقي ونظرة محقة. فهل بيتي مثلا وبيت أي منا الذي بني وأقيم في عهد الحماية الفرنسية نسميه بيتا فرنسيا؟ بينما الأرض والمالك والمهندس والباني وعملته كلهم تونسيون؟ خلاصة القول، هو أن المعلمين المربين طوال عهد الاستعمار، بذلوا كل ما في وسعهم، لا لتعليم اللغة والدين كما هو مقرّر فحسب، بل تعدوه كثيرا لأنهم شعروا بأن بين أيديهم فلذة كبد الوطن الرازح تحت عبء استعمار ثقيل، ولا تخلص من ظلمه إلا إذا كان الشعب يقظا، متعلما، مؤمنا بنفسه وبمقدراته، يعرف تاريخه وأصوله، فتصحو روحه وتقوى إرادته فينفض عن نفسه وعن وطنه غبار الظلم والهيمنة، فيفتك حريته ومعها عزته وكرامته. لهذا، وقد أدوه عن طواعية وبدافع فردي شخصي، متحدين القوانين، معرضين أنفسهم لشتى أنواع العقاب، هم جديرون بأن يعتبروا مناضلين مقاومين، فلهم من الاعتراف والتقدير والذكر، ما لغيرهم من المكافحين في مجالات أخرى. فمن هنا، من صحيفة الصريح الغراء، إلى كل المربين المخلصين لمهنتهم ودورهم البناء، اعتراف بما أتوا وأشادوا، مع طيب الذكرى والدعاء بالرحمة والثواب. مدريد في 30 ديسمبر 2020