بقلم: الأستاذ حامد المهيري - للانسان قوتان منفصلتان، الغريزة والعقل، فالغريزة قوة فطرية تصدر عن افعال قهرية لغاية محدودة تتولى تدبير الجسم في الطور الاول من الحياة ثم يقوم العقل مقامها تدريجيا حتى تتضاءل الغرائز وتتسيطر القوى العاقلة، اذ ان العقل ملكة كسبية تتولى ضبط الافعال ضبطا اراديا بتدبير خاص لغرض مقصود، وباختلاف وسائل الكسب تتفاضل عقول الاشخاص فتتنوع الاعمال الناجمة عنها، على ان عقل الشخص الواحد تتفاوت افعاله باختلاف اطواره والمؤثرات فيه، أما الغرائز فكل نوع منها يجري على منوال واحد قلما ادركت فيه تفاوتا، فأعمال العقل متخالفة واعمال الغريزة متشابهة وقد اكتشف العالم الامريكي الحكيم في الحكمة العقلية William James اكتشافا يذهب الى ضرروة وجود الغرائز في تركيبة الانسان ولو بعد استيفاء العقل حظه من الكمال وأن نمو العقل لا يدل على أن الغرائز ضعفت وفنيت، بل يدل على انها تهذبت ليتسنى لها مزاولة الامور وتدبير الشؤون وقد اعتد بهذا الرأي المتأخرون من المربين، فمثلا غريزة الجنس تهذبت بالزواج فكان «الزواج ظاهرة حضارية لا تقل شأنا في حياة الانسان عن مبتكراته الفكرية ومنجزاته التكنولوجية وابداعاته الادبية والفنية ودعاوي التحرر من الزواج المنظم هي دعاوى للرجوع بالانسان الى عهود كان الانسان فيها لا يعرف الاستقرار ولا معنى التحضر وكتب التاريخ والحضارة توسعت في هذا المجال»، هذا ما ذكرته في كتابي «أضواء على حقوق الاسرة المسلمة من خلال القرآن والسنة» يجرني هذا الى دور الاسلام في هذا المسار فقلت «إن الاسلام صحح مسار الفكر الديني الذي اختل بتغييره النظرة الى الانسان كله رجلا كان او امرأة، عربيا كان او غير عربي، أبيض كان او اسود، وبتغييره النظرة الى المجتمع والعلاقات التي يجب ان تربط بين افراده مؤمنين كانوا او كفارا أو كتابيين أو منافقين، وبتغييره النظرة الانسانية الى الاشياء كل الاشياء بما يتفق وهذه النظرة الربانية الى الانسان والكون والحياة وما بعد الحياة، وتأتي مسألة الزواج في الفكر الديني الاسلامي، فالرجل في الاسلام كالمرأة من حيث التكريم والتشريف ومن حيث الوظائف المكلف بها كل منهما ومن حيث المسؤوليات الملقاة عليه، وكثيرا ما يأتي التكليف بالاعباء موجها اليهما معا (نفس المرجع(. ومعلوم أن الزواج اساس بناء الاسرة، ولأهمية مدلول المصطلح اللفظي نجد القرآن استخدم لفظ «الأهل» بمعنى الاسرة لبلوغ المقصد الحقيقي والمتمثل في القرآن بين الحرية والمسؤولية وعلى قدر المسؤولية تكون الحرية حتى لا تتحول الحياة الى غابة تليق بالحيوان ولكنها لا تليق بالانسان ولهذا السبب لم يدع القرآن لفظ «الاسرة» واستخدم مكانها لفظ «الاهل» عبثا ولهوا وانما لحكمة أرادها الله، وأضفت في نفس المرجع «الاسرة في المنظور الاسلامي ليست قيدا وعبثا وانما هي حتمية نفسية فصار مناسبا ان يعبر عنها ب»الأهل» لا ب»الأسرة»، فالاسرة كما ذكرت مشتقة من الاسر والقيد ومن ثم توحي بالثقل وتدل على الضيق والتبرم وليست الاسرة في الاسلام قيدا وإنما هي راحة نفسية وسكينة وطمأنينة، بدونها لا يستطيع الانسان ان يحيا حياة انسانية حقة وانما هو يحيا حياة اقرب الى حياة الحيوان (فالاهل) مشتق من الفعل (اهل) بمعنى (أنس) أي استراح وهدأ واطمأن يقال (آنسه) مؤانسة لاطفه، وازال وحشته، انما الراحة النفسية والسكينة والطمأنينة امور لا تنال بمجرد التمني، وانما هي تنال بقدر ما يبذل المرء في سبيلها من اعباء وما يتحمله من اجلها من مسؤوليات. ومن ثم كانت (الاهلية) تعني (المقدرة) يقال: استأهل الشيء بمعنى (استوجبه واستحقه) و(أهل الشيء اصحابه «والاهلية للامر: الصلاحية له» (انظر المعجم الوسيط) ومن هذا المنحى تسمى الزوجة اهلا، وتعني (الاهل) الاقارب والعشيرة والزوجة ذلك انه ليس كل (رجل) قادر على ان يكون (زوجا) لان الزواج يتطلب مؤهلات جسدية ومادية ونفسية وعقلية وخلقية لا يقدر عليها كل انسان، ومن ثم كان القادر عليها اهلا لها، فالاسلام بمساره هذا وضع الامور حيث يجب ان توضع فجعل الاسرة مسؤولية من مسؤوليات الانسان» وقد استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم مصطلح (الاهل) في أحاديثه منها في حديث صحيح عن عائشة «خيركم خيركم لاهله وانا خيركم لاهلي» وفي رواية عن علي «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي، وما أكرم النساء الا كريم، ولا اهانهن الا لئيم» وفي القرآن الكريم «ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والاخرة ولهم عذاب عظيم» (النور آية 23) فالذين يتغافلون فيتعمدون الغفلة ويؤذون المغفلين الذين لا فطنة لهم كالصبيان وفاقدي الادراك العقلي ينتظرون ان يأتي «يوم الوعيد، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد» (ق آيات 20 22) هذا موجه للمعتدين « وما يكذب به الا كل معتد أثيم» (المطففين آية 12) «ويل لكل افاك أثيم» (الجاثية اية 7) «هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل افاك أثيم» (الشعراء ايتان 121 222) لا شك ان للفطرة نزعات من الحكماء من ذهب الى ان الفطرة خير، كسقراط، ومنهم من ذهب الى انها شر كأفلاطون، وجاء القرآن بعقيدة ان الفطرة استعداد للخير وللشر معا قال تعالى «ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين» (البلد آيات 8 10) أي طرفي الخير والشر «ونفس وما سواها فألهمها فجوزها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها» (الشمس آيات 7 10) «انا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا» (الانسان آيتان 2 3) وقد اوزع الله النفس ان تتعشق المحسوسات التي هي اصول للمعاني الذهنية فاما ان تسمو فتتعلق بالفضائل وتنفر من الرذائل فتكون مندرجة تحت هذا الخطاب «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية» (الفجر 27) وإما أن تنكص على عقبها، وتنزع إلى العالم المادي، وتتلوث برذائله وأوضاره فتبوء بالشر «إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي» (يوسف آية 53) إذا الإنسان هو في حالة امتحان في هذه الحياة الدنيا يقول المعري: «وكل يريد العيش والعيش حتفه ويستعذب اللذات وهي سمام» فالغريزة ترشد بالطبع إلى السلامة، وتتغير صبغتها صلاحا وفسادا تبعا لطبيعة السئة، ولذلك يجب إشراف العقل عليها ليمحص قضاياها، ويتخذ منها مقدمات صادقة لأحكامه. يقول أبو الطيب المتنبي عن طبائع البشر:
«تصفو الحياة لجاهل أو غافل عما مضى منها وما يتوقع ولمن يغالط في الحقائق نفسه ويسوقها طلب المحال فتطمع»
الإنسان ابن بيئته، فالنفس الرفيعة تجمح بالطبع من البيئة السيئة، وتود لو أن صاحبها يهاجر على حيث يطيب له المقام. والجهاد لإصلاح البيئة السيئة واجب تستدعيه محبة الوطن ليعالج المصلحون النقائص معالجة الطبيب الحاذق، متذرعين بما أوتوا من عزم ثابت، وفكر ثاقب، وإرادة صحيحة، لا شك أن الطفل الذي يراد به أن يكون نابغة أو عبقريا يتوقف مصيره على المربي، قال العالم الأنجليزي (لوك locke) الذي برع في الطبيعيات والطب وتوفي سنة 1704 «إن عقل الناشئ كالصفحة البيضاء ينقش عليها المعلم ما يشاء، والعادة والاختبار عاملات كبيران للنجاح، ونحو %90 من ا لناشئين قد شكلتهم التربية فكانوا على حسبها محسنين أو مسيئين». إن المطلوب من مختلف المربين سواء في الأسرة، أو المدرسة، أو الشارع، أو المسجد أو منظمات الطفولة، والشباب، أو النوادي بمختلف اختصاصاتها أن تنشئ الطفل أو الشاب تنشئة قائمة على أسس علمية صحيحة بالعلوم التي نتخذ منها سلاحا نحارب به الرذائل، ونحافظ به على الصحة، كما يجب أن نستنير بنبراس واقتباس ثمرات مجهوداتهم، وكيف نملأ فراغ أوقاتنا بمباشرة الفنون الجميلة التي نستمد منها شعاع الراحة، حتى نثقف وجداننا ونضبط أخلاقنا ونفقه ما يساعدنا على نيل سعادتنا وفي اعتقادي لوفقه المربون أسلوب التشويق الذي كان طريقة القرآن قبل «روسو» و»هربارت» وهو أسلوب رصين «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر» (الغاشية آيتان 21 22) «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت...» إلى بقية الآيات، ونجد الأسلوب القصصي كقصة يوسف عليه السلام إلى غير ذلك.