لا تزال الصريح، ويبدو أنها ما زالت، تفتح ذراعيها لخيرة الأقلام المكرسة الجهد والمعرفة لمعالجة المشاكل والمواضيع التي تمس بمصالح الوطن والشعب، عن طريق مقالات رصينة متعقلة، نتيجة إخلاص وتبصر، ثمرة واسع المعرفة والتجارب، لا غاية منها سوى الإفادة وخدمة الوطن، الذي يرونه جريحا طريحا، تنهب أشلاءه شلة، أو شلل، من الانتهازيين متعدّدي الغايات والمصالح الشخصية البحتة. أصحاب أقلام كثيرون تحتضنهم الصريح، وليس من دونهم، بل في مقدمتهم، الكاتب البليغ محمد الحبيب السلامي، الذي كرس ويكرس نتاج فكره وقلمه، لما يراه مؤمنا أنه الأصلح للشعب والوطن، كما هو الشأن بالنسبة لوضع اللغة العربية في البلاد وبين العباد. وضع لا يليق بأي شعب، مهما بلغ من التدهور والانحطاط، لأن الشعب الذي يهمل لغته، أهمل نفسه، فانحدر واضمحل. فالله سبحانه قد خص الإنسان، ابن آدم، بكثير الفضائل، وميّزه عن غيره ممّا خلق، فقال وهو أحكم القائلين: وفضلناهم على كثير من خلقنا تفضيلا، وقد يكون اللسان والتخاطب أفضل ما ميّز الإنسان، لأنه المعبّر عمّا في الفكر والباطن، وهو أول وسيلة للتعارف تنفيذا لأمر الله القائل: " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا." ذكر "الشيخ" – على ما أعتقد – محمد الحبيب السلامي في مقال له نشر مؤخرا فقال: " وأذكر أنني سألت ليلة وزيرا تونسيا عن التعريب، فغضب من سؤالي وصرح للمجتمعين وقال: إن بعض الأولياء قالوا نذبح أولادنا ولا ندخلهم مدارس التعريب... ....أنا لا أقول هذا من باب اليأس في العودة للغة العربية، ولكنني أشخص الواقع حتى أقول...الدعوة إلى الرجوع إلى اللغة العربية في كتاباتنا وحواراتنا وخطابنا وتعليمنا، لا يتحقق برسالة يحملها فرد، وإنما يتحقق ببعث منظمة عربية تحمل هذه الرسالة، وتتعاون مع وزراء التربية والثقافة والإعلام، ومجامع اللغة العربية....كيف تؤسس وتبعث هذه المنظمة؟ هذا ما يجب التفكير فيه لتخرج الفكرة إلى الواقع.... ما قولكم؟ كالعادة أنا أسأل وأحب أن أفهم..." يسأل ويحب أن يفهم، هذه لعمري خصال نادرة لدى الكثيرين، والأستاذ السلامي يتحلى بها ويعلنها مشكورا، فها أنا بكل تواضع وثناء، أجرأ على الإجابة فأقول: لو كنت السائل وأمامي هذا الوزير لأجبته حالا، عرّب ودعهم يذبحون، لأني واثق متأكد أن لا أحد يذبح ابنه، وما جواب الوزير إلا إحدى خزعبلات السياسيين ومراوغاتهم، كي لا يبوحوا بالحقائق إلى الشعب، إما لعجز أو لحاجة في النفس. إني أقول وأكرّر، أن التعريب رسميا غير وارد في برنامج أي مسؤول سابق أو لاحق، ما لم تتحرّر البلاد حقا، وتستقلّ حقا، فتصبح فاعلة في شؤونها ومصالحها، بلا شروط ولا ارتباطات، متعاقد عليها لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم. ليستعرض القارئ كل الوزراء الذين مرّوا بوزارة التعليم، أو التربية، أو أي اسم وضع لها عبر السنين، فسيجد بينهم أكثر من وزير أول عرف بغيرته على لغتنا، واشتهر بالدفاع عنها والعمل على إجادتها، وتحدّث كثيرا عن التعريب، وهو خارج الوزارة، ومنهم من بلغت به " الجرأة "، عندما وصل إلى الوزارة، حتى إلى إصدار منشور يطالب، أو يأمر، باستعمال اللغة العربية مع الإدارات والمصالح الرسمية، ورغم هذا لم ينفذ من ذلك شيء، لأنه لم يكن سوى ذر للرماد في العيون، ونوع من بهتان السياسة، وستر ما لا يجب أن يعرفه الشعب وجماهيره. أما اقتراح الكاتب البليغ، فهو وجيه رغم أنه مخجل مزرٍ. فلغة البلاد الأصلية، الرسمية حسب الدستور، لغة الأم كما تسمى عادة، تحتاج في أرضها وبين ذويها إلى مؤسسة للدفاع عنها، أكبر دليل على ما أشرت إليه في الأسطر السابقة. لكن، رغم هذا، فالفكرة جيّدة مفيدة، إن نفذت وتحققت. لكن، من سيتولى تنفيذ هذا الاقتراح؟ من سيعطي الترخيص لتأسيس مثل هذه الجمعية؟ هل سيبقى المعادون المعتدون الأولون على سلامة اللغة ويعملون على قتلها مكتوفي الأيدي؟ أشك في ذلك، وإني أرى، إن تأسست الجمعية، ستقضي أوقاتها ومجهودات باعثيها في مقاومة المعارضين المخربين لها، العاملين على إبقاء الوضع على ما هو عليه، أو أن يسير إلى ما هو أسوأ. إن أي عمل في سبيل إنقاذ اللغة العربية مما هي غارقة فيه، من عداء، وتشويه، واحتقار، مرحّب به لا محالة، لكن، إذا هطل المطر، وتسرب الماء من سقف البيت، هل تنشيف الأرضية أجدر أم إصلاح السقف أولى وأسبق؟ إن سقف بيتنا يشكو أكثر من شق وعيوبه كثيرة، فئن لم نجد له بناء ماهرا جريئا شجاعا مخلصا فأصلحه، ستبقى دار لقمان على حالها، والداء سيزداد عضالة، وكلّ يوم يمرّ هو في صالح المخربين المعادين، لأنهم كالصهيونية، يعوّلون على الزمن وتطاوله، لتحقيق مآربهم. هل هناك حاجة للتذكير كيف ألبست لغة المستعمر كساء شبه رسمي؟ فما أن صدر الدستور وأعلن أن اللغة العربية هي لغة البلاد الرسمية، حتى سميت اللغة الأخرى " لغة التعامل " فأصبح الازدواج رسميا، ومع التلاعب والتآمر والمركبات واحتقار النفس وما إليها، طغى الدخيل على الأصيل، فتهنا وضاعت لغتنا. قد يذهب التفكير بأني ضد تعلّم اللغات أو معاد للغة معيّنة. فليعلم من قد يساوره هذا الظن، أني تعلمت وأستعمل عند الحاجة، وأطالع وأقرأ، بخمس أو ست لغات، مختلفات المستوى والإتقان. ففي المقدمة ومنذ المدرسة الابتدائية وما بعدها، تعلمت حسب الترتيب، الفرنسية والعربية – المهضومة الحق أيامئذ – ثم تعلمت الإيطالية والإنغليزية، والألمانية، وها أنا أعيش وأعمل بالإسبانية. فكل لغة يتعلمها المرء ثروة فكرية جديدة، ووسيلة تواصل وعمل ثمينة. لكن أن تمحو لغة، مهما بلغت، لغتي الأصلية، رمز هويتي وثقافتي، فهذا ما لا ولن يكون. وهو ما أراه ويراه كثيرون مثلي، يهدّد لغتنا أي يهدّد هويتنا، أصالتنا، من نحن، ومن نكون. فئن ماتت لغتنا، متنا وانعدمنا كشعب، كأناس لهم وفيهم ما يُحترم ويُعتبر، فنصبح رعاعا نعيش في ظل أو تبعية الآخرين. هذا إن تمّ، لا قدّر الله، معناه محو كامل، وانعدام، لا يرتضيه ولا يتمناه عاقل مهما بلغ من ضلال ومتاهة. وفكرة تأسيس جمعية للدفاع عن اللغة ونشرها، تحتاج أول ما تحتاجه إلى وسائل الإعلام والإرشاد والإبلاغ، وليس سرّا أن معظمها، كي لا أقول كلها، مُسيّرة بسلطة وتمويل، لا يريان ما نراه ونقترحه، بل يعملان غاليا ضد ما نرمي إليه ونتمناه. فجميع وسائل الإعلام تقريبا، بما فيها الإذاعات بشكليها المسموع والمرئي، التي، حسب المنطق والمعقول، ستكون الوسائل المبلّغة، المنبّهة، الموجّهة، والمساعدة على نشر الصحيح، وإبلاغ المفيد، هي نفسها تعاني ما نشكوه من عدم احترام للغة الرسمية، فتسمع، في كل حين، العاملين فيها وضيوفهم، يتكلمون بلغة محشوة مليئة أخطاء وعدم عناية، ومثقلة بمفردات وتعبيرات من لغة أخرى، فلا العربي يفهم، ولا صاحب اللغة الدخيلة يفهم، لأن الغاية – حسب ما يجري – ليست الإفهام والإفادة، بل ملء الفراغ وحشو البرامج وما شابهها، ومن عجز عن الفهم فلا حاجة لنا به. بقي لي أن أسأل الذين يواصلون الإصرار على إهمال اللغة الرسمية الأصيلة، والتشبث باللسان الخليط الذي قال لي شخصيا عنه دبلوماسي، والدبلوماسي يمثل بلاده داخليا وخارجيا، قال لي بلا مقدّمة ولا سبب: أنا معتز بلغتي، يقصد طبعا اللسان الدارج، بأمازيغيتها، وفرنسيتها، ووو، فلم أجبه ببنت شفة، لأني كنت صحبة دبلوماسي آخر جدير بالاحترام ووافر التقدير، ولكني تأسفت وقلت يا أسفى على تونس وعلى اللغة العربية في ربوعها وبين ذويها. وفوق كل ذي علم عليم. مدريد في 7 جانفي 2021