في قراءة سريعة للفقرات الأولى من مقال السيّد لطفي زيتون تونس نيوز بتاريخ 17.01.2005 وقفت على نقطتين: أولاهما، ترحّمه على رجل الدّولة المرحوم الهادي نويرة، وهو الأمر الذي لم نتعوّد عليه من أعضاء حركة النّهضة عمومًا، في تعاملهم مع قدماء المسؤولين في العهد البورقيبي. و أحسب أنّ هذه أللفتة الرمزية التي لا تكلّف شيئًا، تستحقّ التنويه (وأترحّم مسبّقًا على أرواح كلّ الموتى الذين سيأتي ذكرهم). أمّا النقطة الثانية فتتمثّل في حكم صاحب المقال " إنفراد الجناح المتطرّف الصيّاح: عبد الله فرحات بالنفوذ داخل الحزب الحاكم..."، وهو الأمر الذي لم يٌشجعني على المضيّ في قراءة بقية المقال، و يدفعني لإبداء الملاحظات التّالية: 1. في توصيف الأحداث: في التّاريخ (و أحداث جانفي 1978 هي الآن من مشمولات التاريخ و مسؤولية المؤرّخين، مهما حاول البعض توظيفها السياسي المتأخّر) كما في كلّ العلوم الإنسانية و الاجتماعية، تتوقّف جدّية البحث و صرامة التحليل و مصداقية الباحث على دقّة تعريف المصطلحات المستعملة. و أخشى أن يكون صاحب المقال قد جانب الدّقة في تعريف الأحداث و الوقائع و الظواهر التي عاشتها تونس في الماضي القريب و المتوسّط. فالانتفاضة مثلا، التي عرّف بها الكاتب كلّ أحداث الشّغب و أعمال العنف الجماعي و التمرّد المسلّح و القلاقل و الإنفجارات الاجتماعية التي وقعت في تونس، قد دخلت الآن قواميس السّياسة في كلّ لغات العالم، بالمعنى الذي حدّدته الانتفاضة الفلسطينية، أي حركة شعبية طويلة الأمد، خاضعة لقيادة و تهدف إلى تحقيق غايات سياسية محدّدة في التحرّر الوطني و بناء الدّولة المستقلّة. وهي العوامل التي غابت تماما في الأحداث التونسية. و لن أنازع أحدا في التّموقع حيث يريد من أحداث الماضي، لكنّ ذلك يُفرز عمومًا مذاهبا إيديولوجية دغمائية و لا يؤسّس لرؤية سياسيّة قادرة على التعامل مع الأحداث و حلّ مشاكل المجتمع. 2. إنفراد الجناح المتطرّف الصيّاح/ فرحات بالنفوذ داخل الحزب الحاكم؟ لا أعتقد أنّه بإمكان فرد أو جماعة " الإنفراد بالنفوذ" في حزب أو هيكل سياسي أو اجتماعي، لأنّ النفوذ هو عبارة عن رصيد اعتباري يترجمه تأثير أدبي لا أكثر، وهو موزّع بالتساوي على كلّ أعضاء الهيكل الحزبي أو الهيئة الاجتماعية. و أحسب أنّ الكاتب قد قصد السّلطة، وهي شيء مختلف. فالسلطة تتحدّد اعتبارا لصلاحيات المنصب و تضبطها نصوص قانونية و تنظيمية. و يمكن فعلا أن ينفرد بالسلطة جناح متصلّب أو متشدّد (و لا نقول متطرّف لأنّ العبارة خاصة بالتنظيمات و العناصر المناوئة للدولة ) في الحزب الحاكم. على أنّ شيئًا من ذلك لم يحدث مطلقًا. فقد كان عبد الله فرحات أمين مال الحزب و وزير الدّفاع، و كان محمّد الصيّاح مدير الحزب. و للحزب أمين عامّ هو الهادي نويرة، الوزير الأوّل، و له أيضا رئيس هو الحبيب بورقيبة، رئيس الجمهورية و لا يذكر أحد أنّ هذا الأخير و بالرّغم من تدهور حالته الصّحيّة، قد تنازل عن شيء من صلاحياته. فقد ظلّ على الدّوام حريصا على تولّي كامل مسؤولياته و أداء دوره الرّيادي في الحزب الذي أسّسه. وهو نفس الوضع الذي نلمسه في بقية الأحزاب السياسية في تونس، مهما كان وضعها القانوني. فالحزب، أيّ كان، هو رئيسه أوّلاً و آخرًا، من بورقيبة إلى الغنّوشي إلى حرمل. كان الهادي نويرة الرّجل الثاني في الحزب و أيضا الوزير الأوّل. و قد مكّنته مسؤولياته من صلاحيات كثيرة و من سلطات دستورية كبيرة – زالت مع إصلاح الدستور لسنة 1988- ساهمت إلى جانب قوّة شخصيته و قناعته بسلامة و نجاح سياسته، في جعله رجل الدّولة بلا منازع. و لم يكن ليقبل بأنّ تتشكّل من حوله و خارج سلطته، أية تحالفات أو تيّارات أو أجنحة، فما بالك بانفراد أحدها " بالنّفوذ" في الحزب. و إذا ما كان هناك ثنائي قوي و متناغم في تلك الفترة، فليس الصيّاح/فرحات كم تخيّل صاحب المقال، و إنّما نويرة/فرحات. فقد كان الرّجلان من نفس الجيل، تعارفا منذ نهاية الأربعينات و جمعهما الكفاح الوطني من أجل الاستقلال ثم زمالة طويلة في خدمة الدّولة. و يذكر كلّ الذين عرفوا الرّجلين و عاشوا تلك الفترة عن قرب، أنّ التجانس في الرؤى و المواقف كان كاملا بينهما. و على عكس ذلك، لم يوجد أيّ تناغم أو تجانس أو حتى تفاهم ظرفيّ بين فرحات و الصيّاح. كان فارق العمر بينهما كبير و مواطن الخلاف و الاختلاف كثيرة منذ مؤتمر الحزب في سنة 1971. و أعتقد أنّ هذه الصّورة كانت حاضرة لدى قيادة الجماعة الإسلامية آنذاك وهو ما تدلّ عليه الحادثة التالية: 3. فرحات "المتطرّف" يستقبل الغنوشي "المعتدل". في نهاية صيف سنة 1978، اتّصل بي الحبيب المكني و ذكر لي أنّه بلغهم أنّ محمد الصيّاح و الحزب الدستوري يخطّطان لحملة قمع ضدّ "الجماعة"، و طلب منّي أن أرتّب للّقاء بين الغنّوشي و عبد الله فرحات، وزير الدّفاع. و أذكر أنّي استغربت الأمر لقناعتي من أنّ مخطّطا كهذا، إن وجد، إنّما يتمّ أوّلاً على مستوى الحكومة وهي التي تنفّذه بوسائلها، و قد تستعين في ذلك بالحزب للشّرح و الدّعاية و التّعبئة. فبالرّغم من التداخل الكبير بين الحزب و الدّولة، فلم نكن في بلد شيوعي حيث يملي الحزب سياسة الحكومة ! و قد استجبت للطلب، و رتّبت للغنّوشي موعدًا مع عبد الله فرحات و تمّ ذلك خلال أيام قليلة. و أذكر أنّي قدّمت الرّجل بصفته، كمسؤول عن مجلّة المعرفة، و منشّط لجماعة إسلامية. و أستبعد ألاّ يكون الوزير قد طلب معلومات عن ضيفه. وقد دخل الغنّوشي وزارة الدّفاع من بابها الكبير (وهو ما لم يذكره أبدًا) قبل سنوات من دخوله وزارة الدّاخلية من أبوبها الجانبية(وهوما ذكره كثيرًا) و تحادث مطوّلا مع وزير كان وقتها أقوى الوزراء. و قد تبع ذلك اللّقاء مع وزير الدّفاع، لقاء آخر بين الغنوشي و مصطفى الفلالي، رئيس اللّجنة الاستشارية المغاربية (و كان قد تخلّى عن إدارة الحزب قبل ذلك بأشهر) و قد حضرت اللّقاء الأخير و أعرف ما قيل فيه، و أذكر أنّ الرّجل قد أُستقبل بحفاوة واحترام و تفهّم. و تمّت لقاءات أخرى سأذكرها يوما، و كلّها لغاية تسهيل الإدماج الهادئ و المتدرّج للتيّار الإسلامي النّاشئ، في الساحة السياسية التّونسية. و إن لم يحدث ذلك على مدى أكثر من ربع قرن، بل حدث عكسه تمامًا، فليس دائمًا لتصلّب النّظام فقط، فهذا من تحصيل الحاصل و من أهمّ الثّوابت في تاريخنا السياسي. إن لم يحدث ذلك و حدث العكس تمامًا، فلأنّ الطرف المقابل و بشهادة كلّ الملاحظين النزهاء لمعطيات المرحلة، كان أيام قوّته و لا يزال إلى اليوم في ضعفه، مسكونا بعقليّة عدائية للدولة و محكومًا بروح تصادمية مع النّظام، تمامًا ككثير من الشّخصيات أو التنظيمات الماركسية العائلية التي تعوّض تواضع حضورها الاجتماعي و السياسي بعنف خطابها. و غفل الطرف المقابل الاتجاه ثمّ النهضة أنّه يتحرّك على خلفية الإسلام، دين الجميع و المكوّن الأهمّ في الشخصية الجمعية، و غاب عن قيادته أنّ كلّ إفراط في توظيف الدّين و تطويعه لخدمة أغراض حزبية لا يهدّد فقط الموازين السياسية بالاختلال و لكن يهدّد أسس المجتمع بالاهتزاز. وهو الوضع الذي نعيشه منذ 15 سنة... و لا نرى مخرجًا منه إلاّ بمراجعات عميقة للمفاهيم و المواقف و التصرّفات و تخلّ عن الأوهام من قبل كل الفرقاء و بالخصوص النهضة. وأخيرًا و للتّذكير لم يحدث شيء ممّا كانت تتخوّف منه الجماعة، إمّا لكون تلك المخاوف لم تكن في محلّها، أو كان مبالغ فيها، وهو رأيي، و إمّا لأنّ هذه اللّقاءات قد ساهمت في تهدئة الأجواء.. و لم تحدث الإيقافات إلاّ في صيف سنة 1981، بأمر مباشر من الرئيس بورقيبة في غياب وزيره الأوّل محمد مزالي.أي بعد سنتين من إقالة عبد الله فرحات " المتطرّف" من الحكومة و الدّيوان السياسي. .. و شكرًا للسيّد لطفي زيتون أن وفّر لي الفرصة لإطلاع القرّاء على هذه الصفحة المنسية. و أن زادنا خيرًا زدناه منه، فإمساكي عن نشر شهادتي عن أحداث الخمسة عشر سنة الأخيرة في تونس لا ينبع من الجبن، و إنّما فقط من الخوف من دعم الاستبداد و أنصاره من كل حدب. و أخيّر أن يبقى ما كتبته لحدّ الآن مادّة تاريخية ميّتة، على أن يكون وثائق اتّهام، على أنّه لا يضيرني إن اقتضى الأمر وأستمرّ البعض في استبلاه الناس، أن أجذف ضدّ التيار. http://www.tunisnews.net/13fevrier05.htm/