تفضل الدكتور عبد الجليل التميمي واعطاني كتابا راجعه وقدمه بسعي من ورثة كاتبه المرحوم فاتح والي بعنوان " البورقيبية واليسار التونسي" ولم ينشره في حياته لأسباب قد تكون تعلقت بمحتواه الذي كان سيؤدي بصاحبه الى ما وراء الشمس لو أقدم على ذلك وقتها. في حقيقة لم أَعط أهمية لذلك الكتاب الذي عليه صورة لكاتبة وراء غلافه ولمحة عن حياته لم تتجاوز بعض الأسطر وأهم ما جاء فيها:"انه من مواليد مدينة زغوان وصفته كاتبا وصحفيا متحصل على جائزة -علي البهلوان سنة 1962 لبلدية تونس- عن قصته الروائية: "مولد البطل." تعرض كغيره الى الاضطهاد في عهد نظام الحزب الواحد وعاش في ظلمات الزنزانة تجربة لم يعشها أحد «عرف"ما لم يعرفه أحد، دخلها "جاهلا "وخرج منها حكيما من صنف أولئك الهداة الذين عرفتهم الإنسانية، أفلت من "كهف "أفلاطون ورأى النور، نزل الى جحيم"دانتي "وعاد منه الى المغفلين يعيش بينهم الى ان غادرهم دون ان يأخذ حقه منهم." ( انتهى كلامه) كان ذلك التقديم هو الذي حيرني وقرأت الكتاب وبه 348 صفحة في ثلاثة أيام ولم أتركه إلا للنوم أو قضاء حاجة ضرورية واجبة. لقد وجدت فيه تذكيرا لتاريخ خمسين سنة مرت بها تونس والعالم كله بأطوار متعددة وكان هو فاعلا فيها مثل غيره ولم يشكك في وطنية احدا ممن كتب عنهم من زعمائها أو في تضحياتهم زمن الكفاح التحريري الذي أنتهىباستقلال تونس كاملا وطرد المستعمر منها بدون رجعة وتنمية الروح الوطنية في الشعب الذي كان غافلا. كان ابرز من ذكرهم الحبيب بورقيبة وجماعته والشيخ عبد العزيز الثعالبي وحزبه والحركة العمالية من عهد محمد علي الحامي وفرحات حشاد وأحمد بن صالح وأحمد التليلي والحبيب عاشور ومن جاؤوا بعدهم. لم يهمل في كتابه ذلك الفتنة اليوسفية وأسبابها وتجربة التعاضد وفشلها ونجاحات الهادي نويرة ونهايته بالخمس الأسود ومحمد مزالي وطوباويته وإنتهاء عهده بالهروب بجلده. كما تحدث في الأثناء عن التجربة الاشتراكية والتعاضدية مطولا وسجل فشلها وكان وقتها صحافيا هاويا في جريدة العمل بالفرنسية (L'action) لسان الحزب الحر الدستوري هاويا ولم ينتسب اليه أبدا وكان رئيس تحريرها محمد الصياح في أيامه. لم يكتب كثيرا عن الباهي الأدغم وكان يراه دون المراكز التي تقلدها ولكنه اثنى عليها لثقته، بينما كان بالحبيب بورقيبة معجبا لأقدامه على سن مجلة الأحوال الشخصية التي حررت المرأة من عقالها، ونشره للتعليم ومجانتيه، ولكنه يلومه على نرجسيته وعدم تسامحه. لقد اعطى لصالح بن يوسف حيزا مهما من كتابه وكان يرى فيه قائدا لا يقل دوره عن بورقيبة ولكن المكان لم يكن يتسع لأكثر من واحد. كان معجبا بجمال عبد الناصر أكثر من الكل وتياره القومي العربي الذي أسسه وقاده، وكره أنور السادات الذي جاء بعده وتنكره للقومية العربية وتصالحه مع إسرائيل ترضية لأميركا التي كان الكاتب يكرهها ويرى فيها كل مساوي الدنيا بسببها. فهمت من قراءتي المتأنية لذلك الكتاب أن صاحبه كان طوباويا أكثر مما يلزم وأنه تعرض للسجن والتهميش من أجل أفكاره. ولا أنكر أن ذلك الكتاب شدني لأن الأحداث التي دونها عشتها، لأني من جيله ولكنني كنت في الجهة الأخرى من المعادلة. وفِي كل لأحوال تأكدت من أن كل ما كتبه يتصف بالصدق المؤكد لأنه كتبه لنفسه ولم ينشره لما كان الوقت لا يسمح بذلك، وتركه إرثا لعائلته وقد بره ابنه هلال بطبعه وتوزيعه حتى وصل لي ولغيري ممن يهمهم التاريخ المعاصر الذي كنا نعيشه، فله مني جزيل الشكر على ذلك وإني انصح المهتمين بتاريخ تونس وخاصة بتلك الفترة الحرجة بقراءته والتأمل جيدا في احداث مرت وانتهت وسيجدون فيه أنفسهم خاصة إذا عاشوا تلك العيشة مثلما عاشها الكاتب ودونها.