لم أكن لأكتب عن الدراما التونسية في رمضان هذا العام بعد أن سبق وتناولت هذا الموضوع في مناسبات سابقة لقناعة حصلت لدي وهي أن هذا الموضوع هو موضوع صعب ويحتاج إلى الكثير من الجهد ويحتاج قبل ذلك إلى مؤسسات إعلامية جديدة تحقق التوازن المطلوب في المشهد السمعي البصري بعد أن سيطر عليه لوبي إعلامي رأسمالي يدير في صناعة درامية لصالح رأس المال ومنظومة قيم مادية ويحتاج لمجابهته رؤية درامية مختلفة بقيم أخلاقية مغايرة تعكس فعلا حقيقة مجتمعنا التونسي وتعالج قضاياه الحقيقية وهي مسألة مفقودة اليوم لغياب الموارد المالية اللازمة لذلك و لقناعة حصلت لدي منذ أن غزت القنوات والتلفازات والإذاعات الخاصة بيوتنا وتمكنت من عقول العامة من شباب مراهق وكهول غابت عنهم ملكة إدراك المعنى وملكة التحليل والنقد وهي فئات في معظمها متقبلة لكل شيء ويسهل انقيادها والتأثير فيها والتلاعب بها وهي شرائح من الشعب غير قادرة على ادراك لعبة التلاعب بالعقول والتحكم فيها وهي لعبة تمارسها اليوم الكثير من وسائل الاعلام السمعية والبصرية من خلال استراتيجية خطيرة تقوم على صراع القيم والأفكار وإستراتيجية تغيير نمط عيش الناس وطريقة تفكيرهم التي تربوا عليها وطبعت شخصيتهم وميزتهم عن غيرهم من الشعوب باستعمال الفن والإبداع هذه الاستراتيجية الاعلامية وراءها لوبي ماسك بالإنتاج الإعلامي همه الوحيد هو ربح المال وتضخيم الثروة ولا يخضع لأي معايير ولا يحتكم لأي قيم ومرجعيته الوحيدة هي أنه لا مرجعية له غير تغيير قيم المجتمع العربي المسلم وسلوك أفراده بقيم أخرى يتم الترويج لها بداعي الانفتاح على الثقافات الأخرى والانخراط في العولمة الفنية والقيم الكونية الجامعة ومن بوابة تقنية فن الواقع وسينما وتلفزيون الواقع الذي يوهم الناس بأن ما يقومون به هو تعرية الحقيقة ونقل الواقع كما هو وإظهار الحياة المخفية للناس واللعب على أفكار معينة من إبراز العنف الأسري والمجتمعي المبالغ فيه والتأكيد على موضوع تعاطي المخدرات وتعويد الشعب على التعايش معها وقبولها على أنها ظاهرة تعم كل الأسر وتضخيم الكبت الجنسي والعلاقات المشبوهة والخيانات والدعارة وتصوير المجتمع على أنه غارق في الجنس والفساد وتقديم المرأة في صور مهينة ومشينة وتقديمها في مثال سيء لا يليق بالكثير من التونسيات. لكل ذلك خيرت أن لا أتناول هذه السنة الدراما التونسية في شهر رمضان إلى أن حضرت نقاشا دار بين بعض الأصدقاء حول واقع القنوات الفضائية في شهر رمضان والمادة الاعلامية التي تقدمها وقد لفت انتباهي تعليق على برامج قناة الحوار التونسي يقول فيه صاحبه وهو غاضب من صاحب القناة : ما ذا يفعل سامي الفهري ؟ هل ينتقم من المجتمع ؟ .. يبدو أن العمل الايجابي الوحيد والذي يحسب لحكومة الترويكا هو أنها حاكمته وأودعته السجن وأراحتنا من عقده ونفسيته المريضة ليعود إلينا اليوم من جديد بهذا التوجه الفني غير المفهوم " فهل صحيح أن سامي الفهري صاحب عقد نفسية يريد الافراج عنها في ما ينتجه من أعمال درامية ؟ وهل فعلا يعاني هذا الرجل من حقد كبير على المجتمع لا نعلم أسبابه جعله يغرقه بكل ما هو سلوكيات سلبية بعد أن نشر على مدار سنوات كثيرة القيم المنهارة والأفكار المنهزمة ؟ ولماذا يركز بكثافة على مواضيع بعينها يعيد طرحها في كل مرة بما يوحي أن هناك أجندة معينة وعقلا مفكرا وراء الدراما التي ينتجها ؟ في الحقيقة لا يمكن الإجابة على كل هذه الأسئلة ولكن ما يمكن قوله بخصوص الدور الذي يقوم به صاحب قناة الحوار التونسي هو أن المشكل فيما يقدمه الفهري من منتوج فني يلقى اليوم نسبا من المشاهدة عالية ويقبل عليها الناس يكمن في طريقة المعالجة للقضايا التي يطرحها وللأسلوب الفني الذي يتبعه والمقاربة غير الصائبة التي تركز على الكاميرا المغشوشة التي تضخم الحدث وتلعب على وتر الإثارة وتجييش الغرائز وإبراز المشكل من دون الحل والتركيز على الصورة السلبية والعلاقات الفاشلة في المجتمع في حين أن المجتمع يحتاج إلى معالجة فنية تعلي من القيم الايجابية وتقدم صورا مجتمعية ناجحة وهذه المقاربة الأخيرة نحتاجها لإصلاح المجتمع وتسوية ما به من اخلالات فإبراز مناطق الوهن والضعف مهم ولكن الأهم منه هو طريقة المعالجة والمرمى من هذه المعالجة الدرامية . فلا خلاف أن مسلسل أولاد مُفيدة يعكس واقع جزء من شبابنا الذي يعيش التهميش والإحباط وفقدان المعنى في كل شيء ما يجعله يختار حلولا فردية خارج إطار الدولة والمجتمع ودون اللجوء إلى الحلول التي توفرها عادة المجموعة التي ينتمي إليها فيتجه نحو المخدرات والجنس والعنف والفساد وحتى الانتحار ... كما لا خلاف أيضا في كون هذا المسلسل يثير قضايا تتعلّق بالفساد المالي والأخلاقي لبعض رجال المال والأعمال وهيمنة نمط عيش في ظاهره "حديث" وفي باطنه "بدائي" يكرس عقلية وثقافة مجتمع ذكوري تسوده قيم يفرضها المهيمنون اقتصاديا ويتم تشكيله وفق قيم الفاسدين والأكيد أن سامي الفهري لم يكن مقصده ولا هدفه كشف هذا الواقع وتعرية الوجوه المتخفية خلف نفاق ارستقراطية مزيفة والأكيد كذلك أن كل من شاهد هذا المسلسل لم يتفطن أن يتجه نحو هذا الفهم والأكيد الآخر هو أن هذا المسلسل وغيره من الانتاج الدرامي الذي ينتجه سامي الفهري يمثل اليوم ماكينة اعلامية تعمل برهانات واضحة وهي الاشتغال على القيم والمعايير وبأهداف مدروسة وهي التطبيع مع قيم الربح السريع وقلة الرجولية وانعدام المروءة والتساهل مع الممنوعات والعيش وفق حياة ألا معنى وألا معيار. لكن مع كل هذه التأكيدات فإن المشكل ليس فيما يقدمه سامي الفهري من ثقافة ونمط تفكير وطريقة عيش وسلوك يريد أن يقنع بها الناس على أنها هي حقيقة المجتمع التونسي ويدافع عنها وفق رؤية فنية صادمة وفي الكثير من الأحيان مضخمة تشد المشاهد وإنما المشكل يكمن في العجز الذي نراه في انتاج أعمال فنية تصور حقيقة الواقع برؤية مختلفة عما يقدمه الفهري و تقدم نماذج مجتمعية تنتصر للقيم الايجابية وتراهن على الاصلاح والبناء بدل الهدم والسقوط أعمال بديلة تقدم للناس رؤية فنية تصور واقعنا من دون ابتذال ولا تهور ولا قيم سلبية .. المشكلة في كوننا تركنا هذا الرجل يلعب بمفرده في ملعب لا منافس فيه وسمحنا له أن يفعل ما يريد في غياب الأعمال الفنية التي توازن وتعدل.