كيف نقاوم مظاهر الفساد التي اتسع تأثيرها في المجتمع ؟ ومن أين وكيف نبدأ في محاصرة هذه الآفة التي ابتلي بها مجتمعنا وباتت تنخر تماسكه وصفاءه ؟ وهل يكفي أن تعلن الحكومة الحالية عن إرادتها السياسية وتنطلق في فتح الملفات التي وراءها شبهات فساد وتشرع في إيقاف من ينعتون برموز الفساد حتى نقول اننا نسير في الاتجاه الصحيح وبأننا قد بدأنا في محاربة هذه الظاهرة التي يقول عنها كل العارفين بها أنها ليست بالسهلة وتستغرق وقتا كثيرا وتحتاج إلى آليات ووسائل؟ كانت هذه تقريبا هواجس ندوة مركز دراسة الاسلام والديمقراطية حينما فكر في ندوة التأمت يوم أمس وتناولت قضية المنهج والرؤية والإستراتيجية من وجهة نظر الدين في وضع سياسة محكمة وناجعة لمحاربة هذه الظاهرة ولمعرفة كيف تعامل الإسلام كدين جاء لإصلاح المجتمعات مع هذه القضية التي مثلت تقريبا إحدى الأسباب التي كانت وراء إرسال الرسل وبعث الانبياء قال تعالى « إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين « وقال على لسان النبي شعيب عليه السلام « يا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين» كان السؤال في هذه الندوة هو هل أن ظاهرة خطيرة ومعقدة وتتداخل فيها الكثير من المعطيات والعناصر كظاهرة الفساد ولها ارتباطات عديدة حيث يتداخل الفساد المالي بالسياسي والاقتصادي ويتحالف الفساد الاقتصادي مع نفوذ الحكم الذي يحميه ويجد الفساد المالي روابط في الفساد الإعلامي الذي يدافع عنه في أخطبوط وشبكة علاقات كلها تخدم وتستفيد وتحمي الفساد والمفسدين هل كفي مع ظاهرة بهذه الصورة المقاربة الأمنية والمعالجة باستعمال القانون والضبط الأمني فقط ؟ أم أن المعالجة العلمية الصحيحة تفرض أن يكون مع تدخل الدولة بقوة القانون معالجة أخرى تكون أكثر فائدة تركز على الجوانب النفسية والاجتماعية وتراهن على بناء الذهنية وتوظف التربية والتعليم والثقافة والوازع الأخلاقي والرقابة الداخلية للفرد باعتبار أن الفساد في الأخير هو كغيره من الظواهر الإجتماعية سلوك وعقلية وثقافة وتصرفات ؟ حاولت هذه الندوة أن تقول إن التعاطي مع ظاهرة الفساد في المجتمع لا يكفي الحل الأمني فقط فهذه المعالجة على أهميته وضرورتها الحينية قد توقف الظاهرة وقد تعطل تقدمها وقد تقضي على رموزها ولكنها لا تعالجها من جذورها العميقة فالحل الأمني على أهميته لا يمنع من عودة الفساد ومن تفريخ رموز جدد له فالآلة والعقلية والحاضنة التي انتجت الفساد لا تزال تشتغل ولا تزال قادرة على صناعة فساد جديد طالما أن القاعدة الفاسدة موجودة ولم يتم القضاء عليها لذاك نجد كل الاستراتجيات العالمية التي نجحت في التقليص من تأثير الفساد في المجتمع قد ركزت على حل آني وتدخل في المستوى القريب باستعمال القانون والضبط الأمني مع تركيز استراتجية صلبة تشتغل على المدى المتوسط والبعيد تقوم على وضع سياسة تربوية اجتماعية أخلاقية تستهدف وجدان الفرد وضميره وعقله لتصل إلى محاصرة الظاهرة من خلال امتناع الأفراد من تلقاء أنفسهم من الانخراط في مشروع الفساد بدوافع ذاتية ومن خلال الحراسة والامتناع الوجداني فحينما يعتبر الفرد في المجتمع أن محاربة الفساد بكل أشكاله هي قناعة إيمانية ومسألة محسومة أخلاقيا ومسألة محرمة وممنوعة دينيا وقضية سوف يحاسب عليها عند الرقيب الحقيقي وهو الله وأنه من منطلق كونه مسلما يتحتم عليه عدم التساهل مع الرشوة والسرقة والإثراء من دون سبب والحصول على المال من دون بذل العمل وعدم البحث على الكسب السريع والتساهل مع الاستيلاء على أموال الغير وتوظيف النفوذ للحصول على مصالح مادية ومعنوية بدون وجه قانوني وشرعي حينما نربي الفرد على هذه القيم وحينها نصنع بالتربية والأخلاق والدين هذا الانسان الجديدة الذي يتوفر على ميزان وبوصلة يقيس بها أفعاله حينها نتيقن أن منسوب الفساد سوف يتقلص وأن الجهد الذي تبذله الدولة من خلال القانون واستعمال الضبط الأمني يعضده الوازع الأخلاقي والقيمي والثقافي ويسنده في بناء العقلية التي لا تقبل بالفساد ولا تتعايش معه ولا تتساهل مع أصحابه فالغاية من هذه النظرة في محاربة الفساد تلفت الانتباه إلى أن المقاربة الصحيحة هي تلك التي تقوم على مقومين الأول أمني وقانوني تشريعي يلعب فيه القضاء دورا كبيرا وثاني تربوي أخلاقي قيمي ثقافي يراهن على تغيير العقلية وصناعة إنسان جديد يتوفر على حصانة ومناعة وجدانية أخلاقية ومحاسبة داخلية ترفض التعايش وقبول الفساد لذلك نحتاج إلى منهج واضح وإستراتيجية محكمة حتى لا تبقى الإرادة السياسية المتوفرة مجرد حملة فقط وإنما تتحول إلى اتجاه عام وقناعة ثابتة لإصلاح المجتمع وإنقاذ سلوكياته . هذا المنهج ملامحه الكبرى أربعة : الأولى توفر قيادة سياسية ليس لها شبهات فساد إذ لا يمكن أن تعلن الحكومة مثلا عن عزمها الدخول في حرب على الفساد وفي تركيبتها أو في العناصر المقربة منها شبهات فساد فالمقاومة الصحيحة تحتاج إلى نظافة يد القيادة البعيدة كل البعد عن شبهات فساد مالي وغيره ومن دون هذه الخصلة فإنه لا يمكن أن نتحدث عن خطة حكومة حقيقية في محاربة الفساد ونجاح النبي محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته كان من بين أسبابها العميقة أن قريش لم تجد له تهمة بشبهات فساد مالي أو أخلاقي « والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها « الملمح الثاني هو المساواة أمام القانون في عموم الجرائم ورفض الولاءات والوساطات جاء في الصحيحين أن امرأة مخزومية من أشراف قريش سرقت فتحرّج قومها وأرادوا أن يتوسطوا لها عند رسول الله فذهبوا إلى أسامة بن زيد وكان الرسول يحبه ويقربه إليه فكلم أسامة الرسول في المرأة فغضب منه وقال « أتشفع في حد من حدود الله إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ...» المعلم الثالث هو التشدد في الاعتداء على المال وعدم التسامح مع من يسرق مال المجموعة الوطنية والكشف عن مظاهر التحايل والتلاعب بالمال المسخر للناس والصرامة مع من يتعمد اهدار المال أو توظيفه لصالحه أو لصالح جهات تابعة له جاء في الحديث أن الرسول استعمل عاملا لجمع الزكاة فجاء هذا الموظف الذي كلف بهذه المهمة بعد أن أتمها وقال يا رسول الله هذا لكم وهذا أهدي لي أي أنه سمح لنفسه بأن يأخذ هدايا بمناسبة أداء مهمته وتصرف في المال العالم واستغل النفوذ للحصول على امتيازات فقال له الرسول وكان حاسما وصارما « ألا قعدت في بيت أمك وأبيك ونظرت هل يهدى لك « والموقف فيه رفض لاستعمال النفوذ في الاستفادة من المال العام وفيه دلالة على عزله وإيقافه ومحاسبته . المعلم الرابع هو اعتبار أن مقاومة الفساد عقلية وذهنية وتربية يتربى عليها الأفراد منذ الطفولة ومنذ المدرسة وتتعلق بصناعة إنسان مختلف بقيم ترفض الفساد ولا تقبل بالتعايش معه ضمن مفاهيم راسخة ليست مرتبطة فقط بواجبات يفرضها القانون والخوف من الحاكم والضابطة الأمنية وإنما هو سلوك راسخ ومركز بقوة في البنية الذهنية والشعورية للإنسان نابع من تعاليم العقيدة وقناعات ايمانية تأبى كل أشكال الفساد مهما كبر أو صغر جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم « لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته فرس له حمحمة على رقبته بعير له رغاء على رقبته صامت على رقبته رقاع يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك « فالحديث يسجل أن الفساد ظاهرة عامة لا يخلو منها مجتمع أنساني حتى وإن كان في عهد النبوة وأن ظاهرة الحصول على امتيازات مقابل خدمات غير شرعية نتيجتها العقاب الأخروي قبل الدنوي فالحديث يتحدث على مستويات من الفساد تعلقت بمواضيع مختلفة من شاة وفرس وبعير إلى صامت وهو الذهب إلى الرقاع وهي الملفات وهي كلها صور للفساد القديم واليوم له أشكال جديدة ولكن المفيد أنها كلها أفعال مدانة ولها عقاب وهذا يرسخ في العقلية والذهنية أن الفساد لا يمكن أن نتعايش معه وهو ممنوع شرعا وتأباه الأخلاق السليمة . إن القصد من هذه الندوة هو لفت النظر إلى ضرورة توفر المنهج في محاربة ظاهرة الفساد والتنبيه إلى أنه من دون منهج صلب لا يمكن أن نتحدث عن إرادة صادقة للتوقي من مظاهر الفساد وأن المعالجة الصحيحة تحتاج إلى جانب الحل الأمني ومسؤولية الدولة في الضابطة الأمنية إلى مقاربة تربوية أخلاقية تعتمد على تغيير السلوك لتأسيس ذهنية وعقلية جديدة وبناء إنسان آخر لا يقبل التعايش مع الفساد .. ولكن يبقى السؤال ما قيمة هذا الكلام وما جدواه في مجتمع فقدت فيه القيم وبعدت فيه الهوة بينه وبين هذه التعاليم الدينية ؟ ما قيمة هذا التصور في ضل مدرسة وتعليم وأسرة لا تعتني بالجوانب الأخلاقية الدينية ؟ و في مجتمع منسوب حضور الدين فيه ضعيف جدا ؟ وفي مجتمع محكوم بقيم الليبرالية والاقتصاد الرأسمالي ومنظومة الربح السريع وبكل الطرق من دون ضابط ولا رادع أخلاقي ولا قيمي ؟