يبدو أننا فقدنا البوصلة وعصفت بنا الرغبات المنفلتة فغرقنا في "المعارك الدونكيشوتية" الخاسرة ، وقد تجلى ذلك ، مجددا ، في تعاملنا السياسي والإعلامي والشعبي الكارثي مع الحوادث الدرامية المتكررة لهجرة شبابنا غير الشرعية إلى الضفة الشمالية للمتوسط ، فبين مستغل وضيع للمأساة وشعبوي يبحث عن الإثارة وحقوقجي إنتهازي يسعى إلى التموقع على جثث الضحايا وديماغوجي مفتون بقدرته على تحويل الضحايا إلى مجرمين ، ضاعت القضية الأساسية وضاع معها السؤال الذي لا بد من طرحه : لماذا وصل شبابنا إلى هذا الحد من اليأس الذي يدفعه إلى ركوب المخاطر هروبا من البلاد !؟ لا أحد من أصحاب الحل والعقد وجد الجرأة الأخلاقية الكافية لطرح هذا السؤال ، خوفا من الوصول إلى إجابة صادمة قد تزعزع أركان المنظومة الراهنة بأكملها. سبع سنوات من المزايدات الملوثة بأوحال الحقد الأعمى والحسد الأسود والمتاجرة الرخيصة بآلام الناس ومعاناة الفقراء والمعوزين والضحك على ذقون الحالمين والطامحين والمتطلعين، والكذب والبهتان والوعود الزائفة. كل هذا " الكوكتال" الرديء أفقدنا " تونسيتنا"، تلك التي كنا نتباهى بتجذر مقوماتها ونبل خصوصياتها ، وأضاع عنا نموذجنا " الخصوصي" ذاك الذي زرع المصلحون بذوره الأولى وتعهده بناة الدولة الحديثة بالرعاية والإحاطة حتى إستكمل ملامحه الأساسية . لم تكن المصطلحات اللغوية الملوثة بالعنف المعنوي والمادي ، أو الكلمات الملطخة بدنس التشفي تجد مكانا لها في قاموسنا اللغوي المتداول ، ولم تكن آفة العشائرية والقبلية والجهويات المقيتة والصراعات الطبقية المشحونة بالخلفيات الدنيئة متفاقمة بهذا الشكل الدرامي المفزع ، كما لم تكن "النخب " أو من تطلق على نفسها هذه الصفة هي المغذية لهذا المد التدميري ولا المحرضة على الإندراج في مستنقعاته كما هو الحال الآن. لقد تغير كل شيء وخرجنا من جلودنا لنجد أنفسنا في معترك صراع متهور مع ذواتنا وقد تتالت الأحداث والوقائع التراجيدية بشكل خطير دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث في أسبابها ومسبباتها ، وهي حالة خطيرة قد تمثل ، إذا ما استفحلت أكثر ، نقطة اللاعودة في علاقة السلطة الحاكمة بالشعب .