تكريما لروح فقيد الجامعة التونسية الأستاذ عماد الحاج ساسي و اعترافا بجليل أعماله دعت كلّ من كلية الآداب و العلوم الانسانية بصفاقس قسم العربية، وزارة الشؤون الثقافية المندوبية الجهوية بصفاقس، المكتبة الجهوية بصفاقس، جمعية أحباء المكتبة و الكتاب بصفاقس و دار محمد علي للنشر بصفاقس إلى حضور حفل تقديم كتابه "التعهد بالقول إشكالياته و فرضياته و تأصيله في اللسان العربي" الصادر عن دار محمد علي للنشر و ذلك يوم الجمعة 19 جانفي 2018 بفضاء المكتبة الجهوية بصفاقس. و قد حوى الكتاب 512 صفحة استهلها المؤلف الأستاذ عماد الحاج ساسي بهذا الإهداء: "إلى وطني القادم على مهل إلى رفيقة دربي و زوجتي سنيا إلى ابني بليغ و خلود" كما قدّم الكاتب شكرا خاصا بهذه الكلمات: "إلى كل من علمني حرفا فحررني من قيود الجهل إلى أستاذي عز الدين المجدوب إلى صديقيّ محمد الشيباني و شكري المبخوت" و قد انطلقت الأمسية بكلمة السيدة مليكة شعبان أمينة المكتبة الجهوية بصفاقس مرحبة فيها بجمهور الحاضرين الذي كان نوعيا و قد غصّت به القاعة من أساتذة جامعيين و أساتذة تعليم ثانوي و طلبة و محبين للأدب و الفن عموما و كذلك بأصحاب و رفاق المرحوم و عائلته. و أكّدت السيدة مليكة شعبان على أن المكتبة الجهوية بصفاقس يعتريها الفخر و الاعتزاز حين تكرّم أبناء تونس المبدعين في كل مجالات الفنون و يسرها جدا أن تكون حضنا دافئا لإيصال كل انتاج فكري و أدبي إلى جمهور المثقفين حتى تلعب دورا في مقاومة الفكر الظلامي الذي لا يمكن أن يكون إلا عدو الحياة. و في جو مفعم بالشجن خيّمت عليه مسحة من الحزن عاشتها كل الحاضرات و الحاضرين تسلمت زوجة الراحل الأستاذة سنيا الشابي الكلمة و التي لم تتوصّل إلاّ بعد عناء شديد إلى تبليغ آيات الشكر و التقدير إلى كل الذين وقفوا إلى جانبها إثر فقدانها لزوجها و غمروها بعواطفهم النبيلة و الذين مازالوا إلى يوم الناس هذا خير سند معنوي لها في محنتها و بفضلهم توصلت مع عائلتها الصغيرة و الموسعة إلى إقامة هذا التكريم لزوجها الراحل. ثم كان القول للأستاذ الجليل خالد الغريبي الذي جاء أبرز ما فيه: " ونحن نكرم الصديق والزميل عماد الحاج ساسي - رحمه الله - أقول إنّنا لم نوفه حقه بمثل ما كان عليه من خصال وصفات: هو قامة سامقة جمع بين العلم والتعليم والفن والثقافة بمعناها الأوسع ، فضلا عن عطائه الإنساني ونضاله في سبيل الحرية المرتجاة . مواطنا حرا يغتذي من محبته لتونس ولعائلته ولأصدقائه ولمن يقاسمه رغيف المحبة والتسامح والاختلاف. هو فنان الحكمة إن شئتم: كتب في المسرح والشعر والمقالة، وأتقن عزف الآلة . وانغمر في مضايق الإبداع وطوايا المعرفة وعلوم اللسان والإنسان . وأخرج لنا بعد طول عناء بحثه الموسوم ب"التعهد بالقول، إشكالياته وفرضيّته وتأصيله في اللسان العربي". وقد نوقش البحث بعد رحيله في إطار لجنة علمية موقّرة وفي فضاء الكلية التي اُنتدب للتدريس بها بضعة أشهر.. ونال عنه سميّ التقدير وبالغ الشكر. وكان للأطروحة أن تنشر بجهود من آمن بجهده ، أعني دار محمد علي للنشر بالتعاون مع نادي القصيم الأدبي. فكنّا نحن القراء من يفيد بهذا الجهد جميعه. إنّ كتاب " التعهّد بالقول" الذي نشر ينبئ بالجهد المنحوت الذي بذله الراحل عماد الحاج ساسي . ويكشف عن قدرة باحث يكتنز من المعارف قديمها وحديثها ما يكتنز. وله في العلم أوساع حتى كأنه حاز جميع هذه الصفات، تواضعا ، لا كبرا. وهل يؤتى العالم إلاّ ما لم تستطعه الأوائل ." و دائما في مستوى القمم الفكرية، تلا الأستاذ الجامعي محمد بن محمد الخبو ورقته العلمية التي جاء فيها: " هذه أطروحة دكتوراه أنجزها الراحل الأستاذ عماد الحاج ساسي . قارئها يقف على عمل فذّ تتوفّر فيه العديد من المزايا و الخصال نذكر منها أنّ هذه الأطروحة أُنجزت في نطاق إشكالية حديثة هي إشكالية التلفّظ أو القول و المقصود بذلك تناول علامات حضور القائل في خطابه. و الطريف في هذا العمل أنّ صاحبه لم يهتم بذاتيّة القول الماثلة في حضور المتكلّم فيه و إنّما المدار على النظر في المسؤول عن القول هل هو واحد أم هل هو أكثر من ذلك كما هو الحال في الخطاب التهكّميّ. هذا التصوّر الطريف للمسألة، أسلم الباحث إلى اللجوء إلى نظريّات منطقية و أخرى أدبيّة ممثّلة خاصّة في نظرية التعدّد الصوتي لباختين و هذه خصلة ثانية تمثّلت في توسّل الباحث في اللسانيات بنظريات غير لسانية و هو ما جعل هذه الأطروحة أداة عند اللّسانيين و عند المهتمين بالأدب أيضا. و من خصال هذا العمل الجميل العميق قوّة شخصيّة الباحث فيه فهو معلن عن إنتمائه الى الجامعة التونسية برجوعه إلى بحوث معمّقة في الغرض كتلك المنسوبة إلى الأساتذة محمد صلاح الدين الشريف و خالد ميلاد و شكري المبخوت و محمد الشيباني و محمد الشاوش و غيرهم. لكن اعتماد عماد على هؤلاء ليس اعتماد التلميذ النجيب بل اعتماد المحاور المناقش المختلف فإذا ذهب الباحثون المذكورون إلى اعتبار أنّ للمتكلّم موقعا مفترضا في بداية الجملة العربيّة فإن صاحب هذا البحث يرى أنّ القائل في القول لا بد من قرائن تدل عليه فيها. و لا ننسى أن الباحث كان ميمّما شطر نظريّة روبير مارتان المنطقيّة التي قوامها أنّ مفهوم الصدق في القول أو الصحّة ليس قرين المطابقة بين ما يُقال و الأشياء التي يحيل عليها القول و إنّما الصدق قرين ما يسميه مارتان كون اعتقاد المتكلّم فكون هذا القول صادقا مرتبط بما يعتقد المتكلّم أنّه كذلك في لحظة قوله. و مهجة الأمر أنّ هذه الأطروحة علامة مضيئة فيما يُنجز من بحوث جادّة في الجامعة التونسيّة"
ثم كان لجمهور الحاضرين فسحة تمثلت في بث شريط فيديو توقف عند المحطات الكبرى في مسيرة الراحل عماد الحاج ساسي التلمذية و الجامعية دراسة و تدريسا و نشاطا فكريا و ثقافيا في الساحة الأدبية. أما الأستاذ كمال الزيتوني، فقد ذكر في كلمته مناقب الراحل مؤكدا على ما تميز به من خصال انسانية جعلته ودودا بين زملائه و أساتذته. كما عرج الزيتوني لعديد الذكريات التي جمعته بالفقيد و منها بالخصوص لقاءات سياسية و أدبية بمدينة سوسة مؤكدا على أن الأستاذ المرحوم عماد الحاج ساسي كان أيقونة يقدّس العمل و النظام و أن ما تحصل عليه من شهائد عليا و ما حازه من احترام في صفوف تلاميذه و طلبته و زملائه و ما أنجزه من أعمال فكرية على رأسها "التعهد بالقول اشكالياته و فرضياته" لخير دليل على ذلك. كما أدلى الأستاذ عز الدين المجدوب بدلوه على النحو التالي: "لقد شد انتباهي هذا الحضور الكمي و النوعي و إن دلّ فإنه يدل على ما تحظى به هذه القامة العلمية التي فقدناها في أوج عطائها، فعماد عرفته طالبا مثاليا يجمع بين المعرفة الأكاديمية و الالتزام في المجتمع. مسيرة عماد و وفاته كشفت عن المعدن الطيب الموجود في هذه البلاد، وفاته كانت و لا تزال مأساة لكن وفاء أصدقائه و أحبائه و عائلته تبعث الأمل في هذه الحياة و في ربوع بلادنا." ثم كان للشعر ركن في هذا الاحتفاء، حيث بكى الشاعر الهادي القمري المرحوم عماد الحاج ساسي و هو صديق عمره و رفيق دربه معتبرا إياه شهيد الحروف. و نقتطف هذا الجزء من قصيدته تحت عنوان "قبل الحصاد": "هنا قرب قبر وطأت المدى بكيت و فجرت نهري مداد إليك عماد ساعصر حرفي و أركض في الحرف ركض الجواد و أترع كأسي نبيذا و حرفا ..أهدئ روعي و بعد اتقادي سألعن ذاك القطار فيمضي و يمضي مع الموت طيف عماد" و من بين الذين التقيناهم في الأمسية أستاذ الفرنسية علي اللطيف و هو تلميذ للمرحوم عماد الحاج ساسي و قد أفادنا بما يلي: "درسني الأستاذ عماد الحاج ساسي أربع سنوات في معهد ثانوي خاص. إنه بحق أستاذ غير عادي متميز على مستوى المقدرة العلمية الأكاديمية و على مستوى الأخلاق العالية التي كان عليها. لقد درسني صحبة مجموعة من التلاميذ في بيته دون مقابل و كان كريما و معطاء بفضله تجاوزت الصعاب و نلت الشهائد العليا. أنا منذ سمعت بموته أود لو أزور قبره و سأعرف ذلك اليوم من خلال زوجته الأستاذة الكريمة سنيا الشابي."
و على هامش اللقاء، كانت لنا وقفة مع الأستاذة سنيا الشابي زوجة الراحل التي صرحت لنا بما يلي " أن نصل إلى تحقيق هذا الجزء من الحلم هو هدية لروح عماد العطرة و لبليغ وخلود والأحفاد ان كانوا وهو جزء من حلم اتمنى ان اكمل بقيته لا بحثا عن صيت ولا بحثا عن صورة الأرملة المثالية بل لان الرجل أعطى للكل ولم يأخذ شيئا ولأنه قدوتي وقدوة ابني بليغ وخلود ولأنه عانى في حياته من سرقات وحقد وكراهية لتفانيه وتفرده في العمل والعطاء ولأن هذا الحقد والغيرة متواصلان حتى بعد الرحيل ونعاني منه انا وابني كذبا وبهتانا وتشويها ومنهم من كان في القاعة يوم الجمعة ولكنني ان اطال الله عمري سيبقى عماد "علما يرفرف فوق سدرة المنتهى لا كأعرج يوهم الناس بل كفكرة تتخمر في الزاوية لتصير أيقونة للمدى" هذا كلامه عندما اطلق زميل له اشاعة موته قبل 3 أشهر من رحيله وفي ذهني الكثير لأقدمه من أجل اسم عماد الوقور لأنه يليق به هذا ولست بتعبة ولا مرهقة بسبب ما احاول ان أقدم فقط الغياب هو ما يتعبنا وبدأ يهادننا. لعماد مسرحيات للأطفال وقع عرضها بالاشتراك مع مركز الفنون الدرامية والركحية بصفاقس منذ أواخر التسعينات وهي اليوم في إطار المراجعة لنشرها وذلك لإثراء مكتبة الناشئة وهي على التوالي شادي قرطاج عواد والحجارة الماسية الجزيرة العائمة المغامرون الثلاثة كما انني سأتفرغ لجمع قصائده وتبويبها وسنخطط لنشرها لاحقا" لئن أكّد الأستاذ خالد الغريبي في مداخلته على أن صديقه و زميله الراحل عماد الحاج ساسي كان قامة سامقة جمعت بين العلم والتعليم والفن والثقافة بمعناها الأوسع فضلا عن عطائه الإنساني ونضاله في سبيل الحرية المرتجاة، فإننا حينما التقينا زوجته و ابنيه خلود و بليغ و أساتذته اللذين كرع من معينهم المسجور و أصدقائه الذين عاشروه و أحبوه لمسنا أيضا وفاءهم له غير الممنون هامسين لروحه الطاهرة لئن حال المنون بيننا فإن لأرواحنا في اليقظة و المنام زورات، عهدا و ميثاقا غليظا، ماسكين شمعة طيفك إلى الأبد إلى الأبد إلى الأبد.