عندما كنت أحد طلاب السربون في باريس أعد رسالة دكتوراه الدولة بإشراف الأستاذ المستشرق (دومينيك شوفالييه) منذ عقود رسخت في ذاكرتي حكمة نطق بها هذا العالم بشؤون السياسات العربية و مناهج الخروج من التخلف بعد استقلال الشعوب حين علق على أحداث الإحتجاجات الشعبية ضد إملاءات صندوق النقد الدولي في كل من مصر وتونس و المغرب خلال السبعينيات وهو ما سمي وقتها بانتفاضات صندوق النقد فقال أستاذنا تلك الحكمة التي أستعيدها اليوم وهي :" إن الشعوب العربية أحوج ما تكون إلى ثورات تحدث في صلب الدولة لا ثورات تحدث ضد الدولة" و شرح لنا الأستاذ نظريته تلك قائلا بأن الأمم التي نهضت من كارثة الدمار و حققت المعجزات مثل ألمانيا و اليابان بعد أن دمرتا تماما أثناء الحرب العالمية الثانية لم تقم جماهيرهما بثورة في الشوارع بل أنجزت ألمانيا و اليابان ثورة إنطلقت من قلب الدولة الجديدة المؤسسة على تقاليد الدولة القديمة وهو الفرق ما بين الثورة الحقيقية الناجعة و الانتفاضة الفوضوية الخادعة. و يشرح أستاذنا كيف أن الشعب الألماني استمد من مؤسسات الدولة العريقة تقاليد بناء الوحدة الوطنية و تحفيز المواطن الألماني على مضاعفة الجهد و بناء الإقتصاد الى أن أصبحت اليوم ألمانيا القوة الصناعية الأولى و الطاقة التصديرية الأكبر في أوروبا كما أن اليابان اعتمد على التقاليد الأمبراطورية الراسخة لإعادة إعمار اليابان وهي اليوم أضخم مصنع للتكنولوجيا في العالم قال الأستاذ : لو حللنا أيضا التحولات الديمقراطية السلمية التي حدثت في بلدان أوروبا الشرقية لاكتشفنا أن القضاء على الدكتاتوريات الشيوعية المزيفة جاء على أيدي نخب مستنيرة وصلت الى دواليب الدولة و استطاعت تغيير منكر الإستبداد من داخل أجهزة الدولة و ليس بتدمير أجهزة الدولة و كذلك الحال في ثورات الربيع الأمريكي اللاتيني (في أمريكا الجنوبية) حين انهارت المنظومات العسكرية الفاسدة في السبعينيات فأوصلت الشعوب نخبا ديمقراطية الى أعلى هرم الدولة فجاء التغيير من الأعلى مثلما وقع في التشيلي و الأرجنتين و البرازيل و فينيزويلا و بوليفيا و الأوراغواي و البيرو. تعود الى ذاكرتي هذه النظرية حين أتابع بأسف و خشية ما يقع اليوم في تونس (و بوجه آخر في إيران و مصر و المغرب ثم بشكل مأساوي في العراق و سوريا و ليبيا و اليمن) من فوضى لا نرى لأنفاقها المدلهمة بصيصا من نور فأتذكر حكمة أستاذنا خاصة في تونس التي كانت بيضة الديك في الربيع العربي و نجت نسبيا مما سقطت فيه شعوب عربية أخرى من أزمات و صراعات و طالما ناديت بإقدام الدولة على إنجاز الإصلاحات الكبرى الضرورية لإقلاع الإقتصاد التونسي و تقلص الفساد و تمكين الشباب من فرص العمل ولكن موجة الإحتجاجات المتكررة تؤكد أن تلك الإصلاحات لم تتحقق فشعر المواطن أن حاله المعيشي تقهقر عوض أن يتحسن و ضاق الشباب ذرعا باستمرار بطالته فلجأ بعضه إلى الهجرة السرية الى سواحل إيطاليا على مراكب الموت كما لجأ جزء منه إلى التطرف و انتهاج العنف. و كنت دائما عندما أقابل أحد المسؤولين النافذين أنصح بانجاز عملية إعادة النظر في القوانين من أجل تحيينها و ملاءمتها لواقع وطني جديد فالمجلة الجزائية التونسية يعود تاريخها إلى 1913 حيث كانت تحمي مصالح المستعمر و قانون جلب السيارات من الخارج الذي سنه بورقيبة سنة 1960 و المسمى (الإف سي إر) كان منذ ستين عاما يحل المشاكل و أصبح عبءا ثقيلا على الشعب و على الجمارك و كذلك قانون الأحوال الشخصية الذي سنه بورقيبة لمعالجة معضلات 1956 يجب تقييم إيجابياته و سلبياته و تعديل بعض بنوده لينظم العلاقات الأسرية سنة 2017 على أساس العدل و ضمان حقوق الرجل و المرأة و الأطفال و يجب إعادة الإعتبار للقطاع العام بعد أن فقد دوره الريادي في خدمة المواطن في النقل و التموين و الصحة و التعليم و قوانين أخرى عديدة أصبحت تكبل المجتمع و بالطبع أصبح المواطن يلتف عليها بالحيلة التي أصبحت هي القانون ! هذا هو ما يسمى الثورة الحقيقية من صلب الدولة حتى لا تقوم انتفاضات ضد الدولة. الإصلاحات الكبرى هي الأمل و عدم تحقيقها سيجر البلاد الى مناطق المطبات و الخضوع لبرنامج صندوق النقد الدولي و شروط الإتحاد الأوروربي وهما جناحان لمنظومة (بريتن وودس)!