بالاشتراك بين المعهد العالي لأصول الدين بجامعة الزيتونة ووحدة فقهاء تونس وجمعية قدماء جامع الزيتونة وأحبائه ونادي الباحثين الشبان ومكتبة آل النيفر تم إحياء الذكرى العشرين لوفاة العالم المفكر الشيخ محمد الشاذلي النيفر ( 1911 م / 1992 م ) وتخصيص يوما دراسيا احتضنته جامعة الزيتونة صبيحة يوم السبت 3 مارس الجاري قدمت فيه عدة شهادات ومداخلات ومحاضرات تناولت مناقب المرحوم في شتى المجالات ومسيرته في مجال العلم والفكر وجوانب مخفية من حياته خاصة ما تعلق منها بفعله السياسي و بدوره النضالي إبان الحقبة الاستعمارية ومساهمته البارزة في صياغة الدستور التونسي بعد الاستقلال والكثير من الجوانب التي تحسب للرجل وتميزه عن غيره من علماء الجامع الأعظم. في هذه الندوة التي حضرها عدد كبير من طلبة جامعة الزيتونة وأبناء المحتفى به وأقاربه والكثير ممّن عرفوا الرجل وعاشروه وتتلمذوا على يديه كان من بينهم الرئيس الأسبق فؤاد المبزع تم التعرض إلى النشأة الأولى للشيخ الشاذلي النيفر ومراحل دراسته ودوره الكبير في الإعتناء بالمذهب المالكي ونشره في ربوع البلاد في فترة عرفت هيمنة المذهب الحنفي الذي كان المذهب الرسمي للمملكة التونسية في زمن حكم البايات العثمانيين في حين كان المذهب المالكي مذهب الشعب فبفضل الشيخ الشاذلي النيفر وغيره من علماء الزيتونة وبفضل الكثير من العائلات التونسية التي تعود جذورها إلى الاندلس و التي احتضنت المذهب المالكي أضطر الباي إلى الاعتراف بالمذهب المالكي مذهبا رسما للبلاد مع المذهب الحنفي . في هذه الندوة العلمية تم التذكير بخصال الشيخ الشاذلي النيفير الذي جمع في نفس الوقت إلمامه بالعلم الشرعي مع ولعه بالأدب والشعر وبرع في الخطابة فكان إماما متميزا واختص في علم الحديث واعتنى بالسنة النبوية تدريسا وبحثا وتمحيصا غير أن أهم خصلة عرف بها الشيخ هو حبه الكبير للمخطوطات وولعه بالتحقيق واهتمامه بكتب التراث فمكتبته التي تركتها تحتوي على 12 ألف مخطوطا هي التي تمثل اليوم مكتبة آل النيفر التي بناها قبل وفاته بمنزله بمنطقة مونفلوري بالعاصمة والتي يتولى اليوم أبناؤه العناية بها على نفقتهم الخاصة بعد أن قاموا بفهرستها وفتحها للعموم من الطلبة والمهتمين بالعلوم الشرعية. وقضية التحقيق هذه هي قضية مركزية في نشاط الشيخ واهتماماته العلمية وهاجسه الذي اشتغل عليه طوال حياته حيث يروى عنه أنه إشترى في سنوات السبعين من القرن الماضي مخطوطا ب 1500 دينار ورفض بيع مخطوط لجهة أمريكية ب 40 ألف دينار. ومن خلال منجزه العلمي فإن الشيخ الشاذلي النيفر قد عرف بكثرة تحقيقه للكتب أكثر مما عرف بتأليفه لها حيث يقول عنه من عاصره أنه كان كثير التحقيق والبحث والتنقيب في المخطوطات و الفضل يعود له في تحقيقه لقطعة من موطأ بن زياد وهو جزء فقط من أول نسخة لموطأ الأمام مالك ظهرت ببلادنا وبافريقية وبفضلها تعرف المسلمون على المذهب المالكي بشمال إفريقيا قبل ظهور مدونة الإمام سحنون ورسالة أبي زيد القيرواني. أهم الإضافات التي قدمت في هذه الندوة إلى جانب إبراز الدور النضالي للشيخ الشاذلي النيفر ونشاطه السياسي صلب الحركة الوطنية والحزب الدستوري حيث كان عضوا ناشطا فيه وقد تفطن المستعمر الفرنسي لخطورة دور الشيخ في الكفاح الوطني وأنه ليس من صنف المشايخ التقليديين فتم اتهامه تسهيل عمل المقاومة المسلحة من خلال مدها بالأسلحة والذخيرة الحية وحكم عليه بأن وضع تحت الاقامة الجبرية .. تم التذكير أن الشاذلي النيفر يعد من مشايخ الزيتونة القلائل الذين انظموا إلى التيار البورقيبي وانخرطوا في الحزب الدستوري وآمنوا بأن التغيير يتم من دخل أجهزة الدولة ومن داخل منظومة الحكم ( على عكس الشيخ محمد الصالح النيفر الذي اختار خط المعارضة والتغيير من خارج منظومة الحكم ) ولم يتأثر بالتيار اليوسفي ومشروع زعيمه صالح بن يوسف العروبي الذي كانت الزيتونة خزانه الكبير كما أنه لم يكن معاديا له وتم ابراز أن الشيخ كان يجمع بين المشيخة العلمية والفعل السياسي ويؤمن بأن السياسة شأن ديني وواجب شرعي وكان له دور بارز في التعريف بالقضية التونسية لدى الجامعة العربية حينما ذهب إلى الحجاز بغاية الالتقاء بالملك فيصل ليطلب منه التأثير على الجامعة العربية حتى تضع قضية استقلال بلدان شمال إفريقيا ضمن اهتماماتها والتقائه بالحسن البنا زعيم حركة الإخوان المسلمين الذي سهل له عملية الالتقاء بالملك السعودي .. بالإضافة إلى هذه الجوانب المخفية من سيرة الرجل فقد تمت العودة إلى دور الشيخ الشاذلي النيفر صلب المجلس القومي التأسيس الذي انتخب عضوا فيه وما ينسب إليه من أنه هو من كان وراء الصيغة المعروفة والمشهورة للفصل الأول من دستور سنة 1956 التي نصت على أن " تونس دولة حرة مستقلة ، ذات سيادة ، الإسلام دينها ، والعربية لغتها ، والجمهورية نظامها " وليس للرئيس بورقيبة أي دور في هذه الصيغة التي يقول عنها الدستوريون وأنصار الزعيم بورقيبة أن الفضل يعود لهذا الأخير في وضعها وأنهى بها الخلاف الذي نشب وقتها. لقد تولى الأستاذ يسين الكرامتي أستاذ علم الاجتماع بجامعة القيروان و بالرجوع إلى مداولات المجلس القومي التأسيسي بعد الاستقلال الذي انتخب لوضع دستور البلاد بعد أن تحصل عليها من أحد بنات المرحوم الشاذلي النيفير إنهاء الخلاف حول من كان وراء صيغة الفصل الأول من دستور سنة 1956 وتوضيح المسألة وهي أن الفصل الأول كان محل نقاش وتجاذب كبيرين ليس حول مكانة الإسلام في الدستور الجديد كما أشيع ويشاع اليوم وإنما الخلاف كان وقتئذ حول مكانة العروبة و القومية في الدستور وهل أن تونس يمكن أن نطلق عليها صفة الدولة العربية ؟ وكان بورقيبة يتساءل ماذا يعني أن تكون تونس دولة عربية ؟ حيث كان هاجسه هو المد القومي والعروبي وخوفه من طغيان النزعة العروبية بعد صعود أحزاب قومية من بعثية وناصرية للحكم في كل من مصر وسوريا والعراق وانتشار دعوات الوحدة العربية فكان النقاش داخل المجلس القومي التأسيسي حول عروبة تونس في حين لم تكن إسلامية الدولة و البلاد و الشعب مطروحة بل أن المسألة الإسلامية لم تكن مطروحة أصلا والقول بأن تونس بلد مسلم دولة وشعبا هي مسألة محسومة . فبعد أن قدمت ثلاث مقترحات للفصل الأول من الدستور الأول يقول بأن " تونس دولة حرة مستقلة " ومقترح ثان يرى أن " تونس دولة عربية " ومقترح ثالث يذهب إلى أن " تونس دولة مسلمة " وتوسع النقاش واتحد وبعد أن خاف بورقيبة من صيغة " تونس دولة عربية " خاصة بعد تصاعد المعارضة اليوسفية وتلويحها بإلحاق تونس بالمشرق العربي والمد القومي العروبي قدم مقترحا جمع فيه المقترحات الثلاث في صيغة واحدة وتعويض لفظة دولة عربية بلفظة لغتها العربية وتنازل الشيخ الشاذلي النيفر عن لفظة دولة مسلمة وعوضها بدينها الإسلام وتم القبول بهذه الصيغة المعروفة والتي تحيل إلى اللغة العربية وإلى الدين الإسلامي ولم يكن مطروحا وقتها هل أن المقصود بدينها الإسلام، يعود على دين الدولة أم دين الشعب ؟ حيث كان من تحصيل الحاصل أن يكون الإسلام زمن صياغة الدستور هو دين الدولة ودين الشعب في الآن نفسه وبهذه الإيضاحات حسم النقاش بخصوص من كان وراء صيغة الفصل الأول من الدستور الذي يتضح من خلال استنطاق مداولات المجلس القومي التأسيسي أنها صيغة توليفية من اقتراح بورقيبة بعد أن جمع المقترحات الثلاثة المقدمة وهي صيغة تجنب بها خطورة المد القومي العروبي وتخلى بها عن التصريح المباشر بعروبة الدولة وقبل بصبغتها الإسلامية التي لم تكن تخيفه ولا تمثل هاجسا وأن دور الشيخ الشاذلي النيفر كان تنازله عن مقترح "تونس دولة مسلمة " وعوضها " بدينها الإسلام " لأن الانطباع كان حاصلا وقتها حول تماهي اللفظين .