هو رابع مناضل انتمى إلى مجموعة برسبكتيف اليسارية وأحد الشيوعيين من الرعيل الأول الذي ينزل ضيفا على مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ليقدم شهادته حول مسيرته النضالية وحول ما عايشه وما عاصره من أحداث بداية من مرحلة الاستقلال والبدايات الأولى للتأثر بالفكر البرسبكتيفي وما رافقها من محنة السجن مرورا بفترة حكم بن علي والتحول نحو مقاومة الاستبداد ومناصرة الحريات وانتهاء بالثورة وكل المنعرجات التي حصلت لها والتي حتمت عليه اتباع خيارات واتخاذ مواقف كانت أحد الخيبات التي رافقت مسيرته النضالية وهو إلى جانب ذلك هو أحد المعارضين بشدة للإسلام السياسي وأحد الخصوم الألداء لحركة النهضة ، ظهر بعد الثورة بانتقاده العنيف لحكومة الترويكا وكان أحد الفاعلين في هندسة اعتصام الرحيل الذي غير مجرى الحكم في تونس بخروج الترويكا من السلطة من غير طريق الديمقراطية التي وصلت بها وهو أحد المؤثرين في ظهور حركة نداء تونس في وقت كان فيه الرهان على الباجي قائد السبسي الخيار الوحيد .. هذا هو الطاهر بن حسين ضيف ندوة مؤسسة التميمي التي التأمت يوم السبت 26 ماي الجاري بحضور الكثير من رفاقه وأصدقائه وأوفياء المؤسسة . ما يمكن قوله حول الشهادة التي قدمها الطاهر بن حسين حول مسيرته النضالية هو أن ما استمعنا إليه ينتمي إلى ما يسمى بأدب السيرة الذاتية الذي يتقاطع مع مفهوم الشهادة على العصر التي كثر كتاّبها بعد الثورة وهي نوع من الكتابات التي تسمح لصاحبها من أن يقدم انطباعه وقراءته حول ما عايشه من أحداث ووقائع يغيب عنها التحليل والاستنتاجات والتنظير الفكري الذي عادة ما يترك إلى السامع أو القارئ وكل من سوف يتفاعل مع هذه السردية الذاتية. ولكن رغم هذه الصعوبة التي وضعنا فيها الطاهر بن حسين إلا أنه بإمكاننا أن تخرج من هذه الندوة بجملة من الأفكار و الاستنتاجات وهو ما يهمنا في مثل هذه اللقاءات . يمكن تقسيم مسيرة الطاهر بن حسين النضالية إلى ثلاث محطات أساسية الأولى مرحلة الشباب والبدايات الأولى التي عجلت بانتمائه إلى مجموعة افاق الماركسية حيث لعبت الصدفة دورها في حصول المنعرج الكبير في حياته . يروي الطاهر بن حسين أنه في أحد الأيام في بداية الستينات من القرن الماضي والبلاد خرجت للتو من الاستعمار والدولة في بداية تشكلها وتكوينها والانطباع العام عند الشعب بأن دولة الاستقلال سوف تعتني بالجميع كنت مارا مع صديق من شارع الحبيب بورقيبة إذ برجل متعب يعترضنا و يطلب إعانة فما كان منا إلا أن حملناه إلى دار الحزب الاشتراكي الدستوري ومقره نهج روما لإيماننا وقناعتنا أن الحزب يحمي الجميع والدولة ترعى المحتاجين لكن الصدمة التي حصلت لي هو ما تعرضت له من طرد وإهانة في دار الحزب على يد أحد المسؤولين الذي أسمعنا كلاما غير متوقع .. ويضيف : كانت هذه الحادثة بمثابة الشرخ الكبير الذي شوه نظرتي للدولة وكسر المرآة الجميلة للحزب وجعلني اقتنع بأن كل ما حصل بعد الاستقلال كان زيفا وكذبا وهذه الحقيقة دفعتني للبحث عن طريق آخر وأنا وقتئذ شاب لا أفقه شيئا في السياسة ولكني كنت أرى الظلم وهو السبب الذي أدى بي إلى المعارضة فعملية الطرد التي تعرضت لها كانت لها دلالة رمزية في كون الدولة الوطنية لا تهتم بالمهمشين والفقراء ولولا هذه الحادثة لربما كنت اليوم تجمعيا. وبدخولي إلى الجامعة حصل المنعرج الحقيقي بتعرفي على الفكر الماركسي والجامعة وقتئذ تعج بالشيوعيين والساحة الطلابية تعرف مدا ماركسيا كبيرا وتعرفت على مجموعة آفاق من خلال مجلة برسبكتيف التي بهرني محتواها الفكري وشهدتني إليها القضايا والمواضيع التي تطرحها وقد أعجبت بها رغم أني لا أملك وقتها الأدوات الفكرية لفهمها ومناقشتها ولكن ما حصل هو أني تأثرت بالأفكار التي حوتها ومن هنا بدأ الانخراط الفعلي والانضمام إلى حركة آفاق والعمل صلبها في السرية وهذا يعني أن انضمامي إلى اليسار كان بمثابة المسار الكلاسيكي بدايته ثورة معنوية أدت إلى ثورة فكرية والتحاقي بالماركسية التي وجدت فيها فكرا مستنيرا منفتحا وقد كان طموحي وقتها أن تصبح تونس بلدا مثل أوروبا. ومرت الأمور بشكل طبيعي إلى حدود سنة 1967 تاريخ بداية طرح المسائل الاقتصادية والسياسية التي تعيشها البلاد ومعها بدأ يظهر التفسير الطبقي لما يحصل وبدأت الأمور تتعكر حتى سنة 1968 أين تم التصادم مع السلطة بعد زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى تونس وخروج مظاهرات شعبية تندد بالسياسة الأمريكية في الفيتنام وهي مظاهرات شارك فيها الطلبة بكثافة ولم يحل شهر مارس من نفس السنة وإلا و كانت كل قيادات التنظيم التي كانت تؤمن أنه ليس من الضروري أن تتحرر الشعوب بشكل مباشر وإنما الطبقة العمالية سوف تحقق هذا الهدف عندما تتحد وتتسلم السلطة تم ابعادها وأصبح الخط الوازن في الأحداث هو الخط الثوري والمؤمن بالحرب الطبقية والصدام مع النظام وبعد هذه الأحداث الطلابية تم القبض علينا وهنا دخلت مرحلة أخرى من النضال أين تعرفت على حقيقة دولة الاستقلال والدولة الوطنية فكانت لي صدمة أخرى مع التعذيب الوحشي الذي تعرض له مناضلو مجموعة آفاق الذين حوكموا بأحكام قاسية نالني منها 9 سنوات وشهر. تحدث الطاهر بن حسين عن مرحلة السجن التي كانت مؤلمة جدا في سجن برج الرومي هذا السجن الذي دمر كل من دخله لقربه من البحر ولمستوى الرطوبة التي يتوفر عليها وللظروف اللانسانية التي كان يوضع فيها السجين وهي ظروف لا تليق بأي سجين حتى وإن كان سجين رأي . وذكر أن مجموعته لم تكن لوحدها في هذا المكان وإنما كان معها مجموعة من السجناء الذين يعرفون بمجموعة المؤامرة اليوسفية وقد كانت مرحلة السجن صعبة للغاية إلى درجة أنه حينما خرج من السجن بعد شهرين إثر ضغوط دولية بقي أسبوعا كاملا غير قادر على فتح عينيه بكل سهولة . تحدث عن الضغوطات التي مورست على المجموعة كي تقدم التماسا بالعفو لكي يفرج عنهم وكيف حصل انشقاق داخل المجموعة بين قابل ورافض وكان هو من الرافضين في حين كان محمد الشرفي وآخرين من القابلين بالفكرة .. تحدث عن خيبة أمل حصلت له حينما أبدى برأيه خلال نقاشات السجن حول المفاهيم الماركسية وآليات التغيير المتبعة في الفكر الماركسي كالتعويل على البروليتاريا للتغيير حيث اعتبر بن حسين أن هذه الشريحة من الشعب هي في تونس محظوظة ومن المستحيل أن تثور على النظام وقد كان كلامي هذا لا يعجب الرفاق الذين عادوني وتم تخوين محمد الشوفي وصنفت ضمن اليمين . تحدث عن خروجه من السجن في سنة 1970 وعن فترة الاقامة الجبيرة التي وضع فيها في منطقة المهدية وعن الرسالة التي بعث بها إلى وزير الداخلية يطلب فيها إما ارجاعه للدراسة أو السماح له بالعمل أو ارجاعه إلى السجن وكيف ان عدم الرد على هذه الرسالة جعله يقرر الهروب من البلاد وفك عزلته وهو أول مناضل يوضع في الإقامة الجبرية ويقرر الفرار فكانت الوجهة نحو ليبيا التي لعب فيها صديقان دورا أساسيا حيث أوصله اطار بوزارة الشؤون الاجتماعية إلى بن قردان ومن هناك رتب له صديق آخر وكان راعي أغنام وله حظوة في المناطق الحدودية الدخول الى ليبيا بالتنسيق مع إحدى المجموعات المختصة في التهريب وتمت العملية بكل سهولة إلى أن تفطن السائق ومرافقه بأنني قد أكون " هارب سياسي " الأمر الذي سوف يجلب لهم المشاكل عندها قررا تركي لأكمل ما بقي من مسافة سيرا على الأقدام. في التراب الليبي كانت لي مرحلة أخرى أين حللت عند عائلة بصفتي راعي اغنام ولكن حينما تفطنوا إلى أني لست كذلك طلبوا مني أن ابقى معهم وأن أتولى التدريس ولكن لما كانت لي مهمة نضالية فلم أقبل العرض وغادرت هذه الأسرة نحو طرابلس وهناك عملت لدى أحد المحامين ثم توليت تدريس الرياضيات إلي ان تم إعلامي بضرورة مغادرة البلاد لعدم امتلاكي جواز سفر تونسي وقرروا ترحيلي فما كان مني إلا أن فررت من إدارة الهجرة واتجهت نحو السفارة العراقية التي كنت أعلم أن بها مسعود الشارني الذي أعانني على الايواء وإخراج جواز سفر تمكنت به من الوصول إلى فرنسا. مرحلة فرنسا كانت مهمة في حياتي حيث عشت أحداث أزمة 26 جانفي 1978 من خارج الوطن وعشت أحداث الخبز وعملية الانتقال السياسي التي حدثت في 1987 ووصول بن علي للحكم وقد كنت وقتها راضيا أن جرت الأمور بتلك الصورة .. كنت متفائلا وكل الطبقة السياسية كانت كذلك ما عدا حمه الهمامي في هذه المرحلة لم أكن راضيا على دخول محمد الشرفي إلى الحكومة وقد علل لي ذلك بكونه قد اقترح مشروعا لإصلاح التعليم وافق عليه بن علي .. ولكن لما اشتد القمع اضطر الشرفي في سنة 1995 أن يستقيل وبداية من هذه المرحلة التي مثلت متعرجا آخر في حياتي بدأنا التفكير في وسيلة لمقاومة ديكتاتورية النظام فكانت الفكرة في الاول متجهة نحو تكوين حزب سياسي لكن محمد الشرفي نصحني بأن انشأ جهازا إعلاميا استطيع من خلاله أن أتواصل مع الشعب فاستقر الرأي على بعث قناة من فرنسا واستعنت بقنوات فرنسية سمحت لي بحيز زمني من البث اليومي اتحدث فيه عن تونس وعما يحدث في البلاد دون التعرض إلى الحياة الخاصة للناس وقد لعبت هذه القناة دورا مهما قبل الثورة و برزت خاصة بشكل لافت في أحداث الحوض المنجمي يعد أن أصبح مقرها في منطقة الشابة بتونس وكنا نقدم التقارير اليومية عما يحصل وهذا العمل قد احرج النظام حيث كانت القناة الوحيدة التي تنقل الحركة الاحتجاجية للحوض المنجمي وكان الرابط بيني وبين النظام هو برهان بسيس الذي للأمانة كان محترما معي وتعاونت معه من أجل أن يتواصل بث القناة من دون أن أقع في الأخطاء التي تديني وتتهمني في أمور خارجة عن نطاق العمل الصحفي و للامانة كذلك كان بسيس متعاطفا معي وقد خدمني كثيرا خاصة في مسألة الاعتداءات التي يتعرض لها الصحفيين بالقناة وحجز المعدات الذي تكرر ثماني مرات ولكن رغم كل هذه الحيطة فقد اضطررت أن أغادر البلاد فجأة بعد اخباري من طرف الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان بأن إسمي مدون في كل محاضر البوليس المتعلقة بانتفاضة الحوض المنجمي بما يوحي بتورطي في هذه الاحتجاجات . أما مرحلة ما بعد الثورة فكانت هي الأخرى مرحلة مهمة أحبذ أن أسميها بانتفاضة شعبية كنت اتمنى لو لعب نجيب الشابي دورا مهما ولكنه فرط في هذه الفرصة إن الخطأ الذي ارتكبناه هو في تقدير حجم قوة النهضة كنا نتصور أنها ضعفت لكن الجميع أساء التقدير حيث ظهرت النهضة قوية ومتماسكة وهذا الأمر نقلته إلى سامي الطاهري وشكري بلعيد وتحدثت معهما في ضرورة تجميع اليسار وتكوين حزب كبير وقد لمست منها استعدادا لتجاوز كل الخلافات ومنطق الزعامة وتقريب كل القوى التقدمية لكن ما حصل أنه منذ ذلك اللقاء لم أر شكري وعلمت بعد أشهر أنه كون حزبا بمفرده من دون تجميع لقوى اليسار وهذا الحدث شكل بالنسبة إلي خيبة أمل أخرى . كنت واعيا بخطر الإسلام السياسي وبكون حركة النهضة سوف تنقل التجربة الايرانية لتفكيك الدولة واختراق أجهزتها فكانت لجان حماية الثورة وترهيب الشارع في مقاومة الأمن والجيش واستعمال التقدميين للوصول إلى الغرض لقد استحضرت التجربة الايرانية وكنت على يقين من أنهم سوف يتبعون نفس سلوك الايرانيين في الثورة الايرانية . هذه الفكرة التي كانت لدي حول حركة النهضة وطريقة عملها هي التي جعلتني اتصل بالباجي قائد السبسي الذي ظهر وقتها كشخصية جامعة يمكن أن نعول عليها ونجتمع حولها من أجل انقاذ البلاد و صد تقدم الاسلاميين الذين ظهروا كقوة منظمة ومنضبطة جدا خاصة وأنه قد قيل لي بأنه ليست لديه طموحات سياسية .. كنت من بين 18 شخصية في المكتب التنفيذي لحركة نداء تونس كنت أحلم بمشروع حزب كبير لقد التقينا من أجل معارضة حركة النهضة وقد كان هذا الهدف هو نقطة الخلاف التي جعلتني انسحب مبكرا بعد أن طلبت مع آخرين بعقد مؤتمر للحركة وانتخاب قيادة شرعية غير أن هذا الطلب قد جوبه بالرفض بدعوى أن الباجي هو الضمانة لقوة الحزب وبقائه وبدعوى أن المؤتمر سوف يمزق الحزب لقد كانوا مقتنعين بأنهم سوف يصلون للحكم من خلال الباجي. في هذه المرحلة ايقنت أنه لدينا طبقة سياسية لا تفهم في السياسة والمصيبة الكبرى هي أنه بعد الفوز في الانتخابات لم تعد هناك أية ضوابط وحصل انفلات من كل الجهات وفي كل شيء واستفقت على أن هذا الرجل التسعيني له طموحات سياسية بعد أن خاب ظنه في حركة النهضة من أن توصله إلى قصر قرطاج. كانت هذه أهم الأفكار التي جاءت في شهادة أحد المناضلين المنتمين إلى مجموعة أفاق الماركسية وكانت هذه جوانب من سيرته الذاتية التي تفتقد إلى محطات تاريخية أخرى وقضايا أخرى مؤثرة خاصة الدور الذي لعبته قناته الفضائية الحوار التونسي في إرباك أول حكومة جاءت بعد انتخابات ديمقراطية والدور الذي لعبه هو في الاطاحة بحكومة الترويكا بتلك الطريقة التي وصفها برهان بسيس في حواره الشهير لما كان يعمل بقناة نسمة بالانقلابية .. كان هذا الطاهر بن حسين الذي صرح بأنه كان مستعدا أن يفعل أي شيء و كل الحلول من أجل الحيلولة دون أن يتواصل حكم الترويكا فالديمقراطية يمكن القفز عليها إذا تعلق الأمر بإنهاء حكم الاسلام السياسي . . وكانت هذه سردية يساري أحبط نضاله خيبات كثيرة ومع ذلك لا زال محافظا على ابتسامته وتفاؤله.