ليست الأزمة السياسية المتواصلة منذ بداية المراحل الانتقالية نتاج اختلاف حول الاستحقاقات العاجلة فحسب، وحتى «حلم» التوافق على شخصية لرئاسة الحكومة والانتهاء من كتابة الدستور وإرساء اللجنة المستقلة للانتخابات (وهذا ما نتمنّاه) لن يكون له تأثير كبير في صورة المشهد الذي سيبقى متوتّرا، مترددا ومخاتلا. إنّ تحليل المواقف المتناقضة داخل الحزب الواحد قبل أن تكون بين الأحزاب المتصارعة، وقراءة تاريخيّة لظروف النشأة والتأسيس، تؤكّد أنّ الأزمة ليست إلا تمظهرا لبقاء الأحزاب حبيسة لترسّبات العمل السري والذي كانت مُجْبَرَة عليه زمن القمع. العمل السرّي له قوانينه وطقوسه وضوابطه، فهو يقوم على الحلقات الضيقة بين أعضاء الحزب «من وراء الستار»، أي أنهم قد يجتمعون دون رؤية بعضهم، لا يعرفون إلا الأسماء الحركيّة وهناك انضباط شديد توقّيا من الوقوع في أيدي النظام الذي كان يقمعهم. بذلك حتى وإن سقط أحدهم لن يستطيع الإدلاء بمعلومات مهمة لأنه لا يعرف التسلسل الحلقي للتنظيم، والروايات عديدة للذين عاشوا قساوة تلك المرحلة على اختلاف مشاربهم من يساريين وإسلاميين وقوميين وحقوقيين. في هذا الجوّ المتميز بشدة الحذر، يصبح التواصل مع الجماهير الشعبية أمرا صعبا للغاية وقد لا يتجاوز مجرد توزيع بيانات سرية ليلا أو الكتابة على الحائط، كما أنّ هذا الانضباط الصارم، يجعل التنظيم أكثر راديكالية وتمسكا بإيديولوجيته واعتبارها الحل السحري والوحيد لكل مشاكل البلاد. السؤال الذي يفرض نفسه: لم الحنين إلى أساليب العمل السري اليوم (على الأقل من خلال استعمال الخطاب المزدوج) وقد أصبح لكل تنظيم «حانوته» العلني وصوت مسموع وحرية في النشاط وسهولة في الوصول إلى الجماهير لإقناعها ببرامجه؟ ولم هذا الاحتراز والنظر للبقية بعين الريبة؟. بعد الثورة، كان يفترض نظريا على الأقل، تشكّل سلطة ومعارضة جديدتيْن بآليات أيضا جديدة ومستوعِبَة في صياغتها وأنساقها لحجم الزلزال الذي عرفته البلاد بسقوط رأس الآلة القامعة الذي لم يفرّق بينهم في التوزيع «العادل» لقمعه بالقسطاس!. فإذا بالطبقة السياسية تفشل في أول اختبار: سلطة تعيد تكتيكات النظام السابق ولو بأسلوب ناعم وكلام منمّق مقابل فعل غائب، ومعارضة ترتاب في كل شيء، في السلطة وقراراتها، بل لا نجانب الحقيقة إن أكدنا أنّ التوجّس موجود وبشدة حتى في ما بين مكونات المعارضة نفسها!. هذه الثنائية السريالية بين واقع جديد حافل بالحرية وأحلامها، وطبقة سياسية ما زالت متقوقعة داخل «قلاع» المعارك النظرية بالجامعة منذ أكثر من 30 سنة، هي السبب الرئيسي في تتالي الأزمات. إنّ المحافظة على وَهْمِ امتلاك الحقيقة المطلقة يعني نسف أي أمل في التعايش المشترك مع أنّ الثورة جاءت ضد استبداد الشخص الواحد والحزب الواحد مهما كانت أيديولوجيته. وها إننا اليوم نرى حراكا لافتا للانتباه داخل كل الأحزاب واستقالات عديدة، ويبدو أنه سيتواصل في المرحلة القادمة وانه نتيجة طبيعية ضرورية حتى تتخلّص الأحزاب من يمينها إلى يسارها تدريجيا من حائط التنظير إلى حقيقة العمل الحزبي الذي يأخذ بعين الاعتبار تواجد الأطراف الأخرى. الشهيد شكري بلعيد، ألم ينعته بعض «اليسارويين» بالإصلاحي حين دعا إلى توافق مدني واسع والى جعل تونس حديقة بألف زهرة ووردة كدليل على ضرورة عدم إقصاء أي طرف إلا من أقصى نفسه أو أقصاه القانون في ظل قضاء مستقل وأمن جمهوري؟ بل لعله اغتيل من قبل أطراف تعتبر تجسيم حلمه تعرية لإرهابها ومشروعها الكلياني الذي لا يحتمل التعدّد لأنها لا تنتعش إلا في رحاب الفوضى والعنف. لقد آن الأوان لتخرج الأحزاب من جحور أساليب سنوات القمع إلى رحاب أحلام الثورة وذلك بالعلنية الكاملة وشفافية المواقف في إطار جامع يحفظ حق الاختلاف والتعدد.